المحتوى الرئيسى

فلسفة الشمعة والجسد التونسي بقلم:غسان الكشوري

04/05 20:24

غسان الكشوري من المغرب تحرق الشمعة نفسها فتذرف الدموع، وهي تعرف حينها أنها إلى زوال، تنمحي فلا يبقى منها إلا أثر الدموع تلامس الأرض، تفني ذاتها من أجل أن تنير لنا وسط هيمنة الحالك... هذا حال الشموع العربية: تحرق فتنير... أضحت تونس، اليوم، تحمل ألف عنوان وألف رسالة... ثورة الياسمين، الثورة التونسية، تونس بين الثورة والثروة، لهيب تونس، تونس دروس وعِبَر... كلها عناوين لا تصلح لأن تعلق على حدود تونس جغرافيا فحسب، بل يجب أن تمتد إلى الحدود الثقافية والسياسية والاجتماعية وحتى النفسية... فقد أبانت التظاهرات الأولى عن نهم المواطن العربي بالنكهات الثورية، كالذي تشهده ليبيا واليمن وسوريا... ومن ينتظر دوره من البلدان العربية. أججت شوارع القرطاجيين جهات ومناحي وتطلعات سمحت للصوت أن يُسمع من أنين السوط الذي ظل، لعقود من الزمن، يجلد الذات ويجرّدها من ذاتيتها. فطرحت بذلك نفسها بقوة كتساؤلات أكثر منها حلولا لأزمة. لماذا وكيف حرّكت تونس؟ وإلى أي مدى وصلت أصداؤها؟ وما هي نهاية أنموذج الحكم العربي؟ تساؤلات ستُبقي تونس للتاريخ عبرة وستبقى بوابة التغيير؟ لأنها حركت هموم الشارع العربي ولأنها أيقظت الشابي ليقول نبأه: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر... وها قد أزالت الشموع التونسية الليل، فانكسر القيد، وهوت معه الحدود. والشعب إذا أراد فلا مردّ. ما أحدثته تونس لم يطح بالنظام القائم فقط، بل إنها جعلت الحكام يتشبّثون بكراسيهم، ليس حبا، وإنما خوفا، الشيء الذي أثار غضب المتظاهرين والمراقبين، على حد سواء، مما أطال من عمر المد والزحف نحو الهدف المنشود، الإصلاح بدل الفساد والحرية لأبناء الجيل الجديد، على ضوء ردة فعل أحد المتظاهرين... حين يستعمل أصحاب الكراسي أدواتهم القمعية، فإنه دليل على أن وراء ذلك مصالحهم الشخصية والفائقة الخصوصية، فليس القمع من صلب الحوار ولا الحوار نهاية كل قمع... كما أنه أيقظ فيهم شيطان الغضب الذي لم يُظهره أحد منهم عندما أرادت (وفشلت) إسرائيل أن تُيتِّم أبناء غزة وتستأصل جذورها. ولا شك في أن النظرية التربوية في سلوكيات الطفل تطابق نظرية الحكم (عند العرب بشكل واضح)، فالطفل العربي إذا أراد شيئا وشرع في الصراخ، قابله والداه بالقمع وأجبراه على السكوت كرها، بعيدين عن إمكانية الحوار أو حتى الاستماع، فالسلطوية -كما أشار إليها الدكتور يزيد عيسى السورطي في كتابه المعنون ب«السلطوية في التربية العربية»- هي دائما ضد التقدم والتحرر والتعليم... وتساعد في تسهيل الغزو الثقافي وما إلى ذلك... وتطابق النتائج يبدو ظاهرا. إن لنا من آليات السلطوية ونتائجها السلبية ما يكفينا لأن نكون آلات أو ميكانيزمات لتحقيق الجشع السياسي اللا نهائي المصالح، من جهة، واتساع الهوة الفاصلة بين الشعب، بكل فصائله والسياسة (أو ماهية الحكم) من جهة أخرى. أفضت القطرة التونسية إلى إفاضة الكأس، فالإناء العربي امتلأ ظلما وقهرا مما احتواه، فانفجرت جزيئاته. هذه القطرة أو تجربة التحرر من الوعاء كانت خير دليل على أن الشعوب تربي الأمل داخل الألم، والتاريخ سيكتب عن طوق الياسمين وعن الذين وجدوا رحيقها. لم تحرك تونس الشعب فقط بل إنها (داخليا وخارجيا) بعثرت أوراق النُّخَب والأحزاب وأرّقت ليل الكاتب والروائي والشاعر وأنّبت ضمير المثقف، كما أنها أوحت إلى الموسيقي بلحنها الجديد. بالإضافة إلى ثلاثية أبعاد المخرج وترابطية الشبكة الاجتماعية (فايسبوك). ولم تكن تونس مجرد أحداث ووقائع، بل إنها ظاهرة غيّرت مفاهيم وسبرت أغوارا لم تكن أصلا واضحة الملامح، فثورية العقد الثاني من الألفية الثالثة صارت عدوى لا مناط من تجاوز تبعاتها، بيد أنها حملت داخلها رموزا ودلالات وحفريات تستوجب التنقيب في ماهيتها النسقية، كالحرق والذات والانتحار والنار... إلخ. مما حذا بالعلوم الإنسانية وما بعد الحداثيين، باعتبارهما ثيمة العصر، إلى تغيير مناظيرهم وأبحاثهم إلى دراسة الجسد العربي المغبون، ك«جسد كوني« ينبني على تراتبية الرمزية من الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والتاريخية الثقافية إلى الرمزية السياسية. مفارقات الجسد أخذ الجسد السياسي صورا وأشكالا وتعريفات أثقلت من حمولته المعرفية والجمالية، فلم يعد سكونه أو حركته بحثا من قِبَل الباحثين والمختصين بما يلزمهم في علائقيته السوسيولوجية، بل تخطت أبعاده إلى غيابه وفنائه، أي بالمعنى الأقرب ما أسماه أوغست كونت «الغيرية»، فناء الذات من آجل الآخر، الآخر- الذات، الآخر-الجماعة، الآخر- المعتقد، الآخر -الأرض، الآخر -الخبز، الآخر -المستقبل... تشير التونسية رشيدة التريكي، وهي باحثة متخصصة في الجماليات، إلى أن غياب الجسد وفناء ماديته يحملان دلالات أخرى، بعد أن يصير صورة وتمثلا، داخل السياق المجتمعي، يمنحنا تأويلات يصعب تحديد أبعادها المفاهيمية. يجعل هذا من رصد الجسد المنفرد بعيد المدى عن كل محاولة لعزله عن منتهاه أو مآله السياسي (ليس المقصود هنا المآل المادي)، فما أثمره الجسد التونسي -كنموذج كان خاضعا للسلطوية السياسية- دليل على إمكانية خروج ذلك الجسد العربي من رحم الأزمة، في حين أن ازدواجية الإنتاج الاقتصادي والاستغلال السياسي (حسب فوكو) كفيل بأن يكون الجسد قوة منتجة، يمكنه أن ينتج جسدا آخر وأن يعرفه ويسيطر عليه، فيما تسميه مفهمة ميشال فوكو «التكنولوجيا السياسية للجسد». لا يمكن أن نغفل مفاهيمية النظريات الحديثة لمجاراة الركب في كل آلياته المتبعة حديثا، في الوقت الذي يصنع الجسد لنفسه مخرجا للحيلولة دون القبوع في ركام النظريات الغربية الكلاسيكية، فهو جسد يحتك قبل أن توضع له مفارقات الفكر المتقوقع في مأزق الخضوع لما يمكن وصفه بالسلطوية الذاتية وسلطة الجسد على نفسه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل