المحتوى الرئيسى

أترضى أن تكون عقيمًا؟!

04/05 16:49

بقلم: د. حمدي فتوح والي لا أحد ينكر ما حققه الطب من نجاحات في مجال علاج أمراض الولادة والخصوبة ومعالجة العقم، والاحتيال بكلِّ وجه ممكن للوصول إلى الإنجاب مهما كانت التكاليف، ومهما عظمت التضحيات، وهو جهد مشكور ومحمود.   ولعل الحافز الدافع إلى هذه التضحيات والاكتشافات هو غريزة حبِّ الخلود وامتداد الذكر، وهي الغريزة التي استطاع إبليس اللعين أن يدخل من خلالها إلى أبينا آدم عليه السلام: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) (طه: من الآية 120)، وكان ما كان.   وما تزال كلمة العقم من الكلمات الثقيلة البغيضة إلى النفوس؛ لأنها تعني في بعض حالاتها العدم أو الموت.   وما أظن أحدًا يُخيَّر بين الخصوبة والإنتاج وبين العقم فيختار الأخير، وبرغم هذا فإني أرى كثيرًا من خطبائنا يُخَيّرون فيختارون أن يكونوا عقيمين، وألا يكون لهم إنتاج، رغم توافر الظروف جميعًا لإتاحة الفرصة لهذا الإنتاج.   إن الناس يحرصون على الإنجاب، ويتمنون أن يكون لهم ولد مهما كلفهم ذلك من أمور برغم علمهم بقول الله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)) (التغابن).   ولا أظن أحدًا من الخطباء أو غيرهم لم يقرأ قول الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن: من الآية 14).   ورغم تلك التحذيرات المؤكدة بأن غريزة حبِّ البقاء والخلود تنزع بصاحبها إلى البحث عن الإنجاب والإكثار من النسل.   والناس في هذا التكالب على حب الإنجاب يصدرون عن فهم خاطئ للبنوة وحب البقاء وخلود الذكر، وطلب الولد الصالح الذي يدعو لهم بعد موتهم؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يرتب على هذه البنوة الخير المؤكد، وإنما حذَّرنا منها.   لكنه أخبرنا أن هناك أبوة أخرى هي الأعظم خيرًا والأفضل والأبقى أثرًا عند الله وعند الناس، وهي أبوة الدعوة والدلالة على الخير.   إنك إذا قرأت قول الخالق الحكيم سبحانه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)) (الكهف)، تحس نوعًا من المقارنة الحقيقية بين نوعين من البنين لم يكشف عنهم الغطاء؛ حتى لا يدخل على الناس ما يبلبل أفكارهم، وترك لذوي البصائر أن يستثبتوا بهذا المراد وهم راسخون.   وهذا ما فهمه العالم الجليل البهي الخولي صاحب "تذكرة الدعاة" إذ يقول: "ولعل مما يسندنا في هذا الاستئناس قوله تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)) (الكوثر)، ردًّا على الذين كانوا يشمتون به صلى الله عليه وسلم لموت أبنائه الذكور، ويقولون: إنه أبتر، لا ذرية له تبقى من بعده وتحمل ذكره، فقرر بهذا سبحانه أن الذي لا عقب له ولا ذرية هو في الحقيقة الذي فسد قلبه ببغض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس له من ذرية القلوب والأعمال ما يبقى بعده مذكورًا في ضمير الأجيال، أما ذرية الصلب، فلا خير فيهم لأبيهم إذا كان رجل سوء مقطوعًا من أعمال البر والتقوى.   ولن يكونوا كلاًّ على أبيهم، بل سيعملون معه دون أن يراهم؛ بل قد يكون في مخدعه نهارًا أو ليلاً، قد أضناه العياء، فلا يقرون حول مضجعه، بل يسيحون في مختلف الأماكن يتلمسون عملاً يساعدون به أباهم أو صاحبهم".   أخي الداعية.. هل فكرت يومًا في أن يكون لك ذرية يبقى بها أثرك، ويمتد بها عملك، وتُذْكَر بها عند الناس كلما ذكر الخير والصلاح.   إن كل واحد ممن انتفع بك، واهتدى بسببك، وذاق حلاوة الإيمان على يديك هو ولد لك، بل هو بضعة منك، ليس بضعة جسد أو قبضة طين، وإنما هو نفحة إيمان وقبسة نور، إنه ذرية روحك إذا كان الأولاد ذرية البدن والجسد.   وإذا كان الأولاد قد قُرِنوا عند ذكرهم بالفتنة، وجعل الله من بعضهم أعداء؛ فإن ذرية الروح خير دائم، وذكر خالد، وأثر باقٍ، وهم قبل ذلك وبعده أبوابنا إلى الجنة وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى.   ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم".   أرأيت لو علمت أن هداية هذا الرجل الذي أمامك خير لك من أموال تملكها وعقارات تقتنيها، وتجارة رابحة، ومراكب فارهة، ومساكن واسعة، أكنت تؤثر فيهم شيئًا.   إنهم يذكرونك في مجالسهم فتلهج ألسنتهم بالدعاء لك، والثناء عليك، ويظل لك نصيب من جهدهم، وحظ من نجاحهم، ويكون لك من الأجر مثل أجر كل واحد منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، مصداقًا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير، فله مثل أجر فاعله، لا ينقص ذلك من أجر فاعله شيئًا" (أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه).   وأليس هذا ما نفهمه من قول ربنا سبحانه: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) (النساء: من الآية 85).   إن سعادة الإنسان عندما يُبشَّر بولادة مولود له تكون عظيمة وعميقة برغم أنه لا يدري ماذا يخبئ له القدر من صلاح هذا المولود أو فساده.   فلماذا لا يفرح بنفس القدر عندما يرى شابًّا جديدًا قد اهتدى على يديه، ويرى أثر هذا الشاب فيمن حوله دعوة وغيرة واستقامة وإنتاجًا.   إن هؤلاء الجند الذين أنجبتهم روحك بامتزاجك بأرواحهم؛ حيث استطعت أن توصل إلى أرواحهم تيار الوحي؛ فاهتزت طربًا وامتلأت حبًّا؛ عندما ذاقت حلاوة الإيمان.   "إن هؤلاء الجند، تربطهم بك رابطة فوق رابطة الجند بقائدهم، إنهم خرجوا من سويداء قلبك، فهم منك وأنت منهم، يعطفهم عليك ما يعطف الأبناء البررة على أبيهم، ولك أن تقول: إنهم ذرية أنجبهم قلبك، إلى جانب الذرية التي ينجبها صلبك، غير أنهم أصدق وكاءً وأطول بقاءً، وأقدر على العون والمؤازرة"(1).   هل جربت شعور المعلم إذا لقي تلميذًا له في منصب رفيع ومقام كريم؟، ألست ترى الفرح يغمره والنشوة تملؤه، ويشعر بالفخر والعزة وهو يرى أثر غرسه وثمرة جهده وتعبه؟   إن كان هذا في أمر دنيوي عارض، فإن فرصة الداعية أعظم وهو يرى أثره رجالاً صالحين تصلح بصلاحهم حياة الناس، أو دعاة مخلصين ناجحين يمتد أثرهم إلى صلاح الأمة بأسرها.روى مسلم في صحيحه وأصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"(2).   إن الدعاة في هذه الأمة يمثلون عقلها وروحها، فإذا كان الحكام بسطوتهم وقوانينهم يمثّلون إرادة الأمة وقوّتها؛ فإن العلماء هم المرشدون لهذه القوة والموجّهون لتلك الإرادة والموظّفون لتلك الطاقة حتى لا تشذّ أو تنحرف.   وما زال الناس يسمعون لمواقف للدعاة وقعت منذ أكثر من ألف سنة، فتُحدِث في قلوب الناس هزة، وينتفعون بها فيهتدون.   ومَن منَّا لم يسمع بمواقف الإمام ابن تيمية في مواجهة الناصر محمد بن قلاوون، ومواقفه في مواجهة المبتدعة من المتصوفة، ومواقفه في مواجهة غلاة الشيعة، ومواقفه العظيمة في مواجهة التتار، ووقوفه في عزة وشموخ أمام ملكهم "غازان"، وكيف تحولت تلك المواقف إلى مدد روحي يحمِّل على الثبات، ويحفِّز على التقدم ويمنح جند الإسلام الثقة واليقين.   إن الشعور بالعقم شعور مؤلم قاسٍ، فليدفعك هذا الشعور إلى الاستكثار من نسل الصالحين الذين ينطلقون في الأرض ليحيوا ما أمات الناس من السنن، ويقيموا ما هدم الطغاة من القمم، ويصلحوا ما أفسد الكافرون من معالم هذا الدين.   إن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والوسع هو أقصى الطاقة، ونحن لا نريد من الخطيب والداعية إلا أن يعذر إلى الله التأني لنفوس مَن يدعوهم ولطف التسلل إلى قلوبهم، وأن يخفض الجناح لهم ذلة ورحمة؛ حتى يظفر بثقتهم ويمتلك ناصية قلوبهم.   وما أجمل بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبشر الدعاة بقوله، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل العلماء في الأرض، كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر و البحر، فإذا انطمست النجوم، أوشك أن تضل الهداة"(3). ------------ (1) تذكرة الدعاة، ص 296. (2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. (3) رواه أحمد في مسنده 3/157، ومجمع الزوائد 1/121، 202، والترغيب والترهيب 1/100.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل