المحتوى الرئيسى

القاضي فؤاد راشد يكتب: اخلعني.. شكرًا!!!!

04/04 16:50

كان توفيق الحكيم وكيلاً لنيابة دمياط، وفي الصيف طلب إلى مركز الشرطة إرسال محاضر التلبسات، ومعها المتهمون إلى حيث مقر إقامته المؤقتة بمصيف رأس البر، وقد روى أمورًا أذهلته، ولم يعرف لها سببًا في البداية، فقد لاحظ كثرة الجرائم على نحو غير مألوف، كما لاحظ أن المتهمين جميعًا معترفون بالجرائم، وبلغت قمة العجب أنهم كانوا يقابلون قراره بالإفراج عنهم باستياء، واحتجاج مع توسلات ببقائهم رهن الحبس، وسرعان ما عرف السبب، وبطل العجب؛ فقد أغرى منظر البحر ونسيمه العليل الناس بارتكاب الجرائم لنيل نعيم قضاء بعض الوقت على نفقة الحكومة، خاصةً أن الحكيم اعتاد على ما عُرف عنه من حرص أن يعطي للمتهمين مالاً قليلاً للطعام والشراب خلال وجودهم بالمصيف عند العرض عليه.   تذكرت القصة لما جمعني مجلس ببعض الأصدقاء، ورحنا نتكلم في الشأن العام، وبيننا طبيب هادئ الطباع لم ينطق طوال الوقت بكلمة واحدة إلا عندما تطرق الحديث إلى الرئيس المخلوع، عندها صاح الطبيب صارخًا: "ليتني مكانه"، وتوقف الجميع عن الحديث وراح صاحبنا يقول إنه زار شرم الشيخ مرةً واحدة طوال حياته لأسبوع تحت ضغط أولاده، وأنهم لما عادوا صعب عليهم التأقلم في مدينتهم إلا بعد بعض الوقت، وكانوا يلحون عليه في العودة لبعض الوقت وهو عاجز عن تدبير نفقات الرحلة الباهظة، وأن أصغر أبنائه كان الأكثر إزعاجًا لأنه سمع من أمه فور دخولهم شرم الشيخ قولها إنها "جنة"، وهكذا فقد راح في كل مرةٍ يبكي مطالبًا العودة مرةً أخرى إلى "الجنة"!   وانفجر بعضنا في نوباتٍ من الضحك الهستيري، وراحت السكرة وجاءت الفكرة، وكأننا لأول مرة نعرف الحقيقة المرعبة على بساطتها، وهي أن سارق البيضة يودع الليمان بينما المتهم بقتل ألوف وسرقات المليارات يهنأ بالعيش الرغيد والعمر المديد والماء والخضرة وما شاء من وجوه الحسن بـ"الجنة" كما تخيلها طفل بريء!   وتبادر إلى ذهني فرض هزلي ساخر، ماذا لو كان المجرمون يعاقبون لا بالإعدام ولا الأشغال الشاقة، وإنما يسمع القاضي مرافعة النيابة ثم دفاع المتهم وتثبت التهمة باعترافه بالقتل ثم يقول "حكمت المحكمة بمنح المتهم قصرًا بشرم الشيخ مع مليار دولار" رُفعت الجلسة!!   كان مجرمو توفيق الحكيم أُناسًا من البسطاء ممن يمضون العمر في كفاحٍ مريرٍ لأجل كسرة خبز ومأوى وخرقة تستر أجسادهم المنهكة بالفقر والمرض، وكانت أكثر الجرائم من نوع عدم توريد أنفار لمقاومة دودة ورق القطن، أو مخالفة الدورة الزراعية، وكانت يد القانون- كالعادة مع الضعفاء- تتحرك بهمة للقبض عليهم، وعرضهم في سلاسل حديدية على النيابة العامة، ولحرمانهم من نوع متعة هواء البحر فقد كانت السعادة تغمرهم رغم القيد الحديدي ورغم أنها ساعات عابرة يعودون بعدها لحياتهم الشاقة.   وفي الحقيقة أنني لما تأملت كلام الرجل راح سؤال يطاردني، ترى هل يُعاقب مبارك أم يُكافأ على ما تتوافر الدلائل الجادة على ارتكابه من جنايات استلاب المال العام، وأرواح الشهداء في الثورة، وقبل الثورة فضلاً عما ارتكبه من شناعات سياسية يدفع ثمنها أجيال كاملة؟ومتى كانت الإقامة في أحب مكان لإنسان بين أهله عقابًا، وقد عرف عن مبارك حبه الشديد لمملكته الخاصة في منتجع شرم الشيخ، وقد قيل إن إقامته محددة بها دون أن يعلم الشعب المجني عليه شيئًا محددًا عن طبيعة حياته ونوع الضمانات لتمتد إليه يد العدالة وتوقع به من العقاب ما يُلائم ما يثبت بحقه من الجرائم!   علينا أن نُسلِّم بالحقيقة مهما كانت مرارتها، والحقيقة الموجعة أن الشعب المصري ما زال يُعامل بأقل مما يستحق من الاحترام من قبل حكامه، فليس هناك من تفضلٍ بشيء بل إن الشعب هو مَن تفضَّل وضحَّى وأتاح لمَن يتصدرون الصورة أن يجلسوا حيث هم، نعم-نقولها مدوية- لقد راح الشهداء إلى رحاب ربهم، وأُصيب الألوف بإصابات بليغة نجمت عنها عاهات أبدية، وترملت نساء، وتيتم أطفال، وثكلت أمهات فلذات أكبادهن، وبعد أن دفع الثمن من دفع جلس البعض حيث يجلسون وصاروا بين يومٍ وليلةٍ نجومًا ملء الأسماع والأبصار، ولستُ مستعدًا على الإطلاق لسماع مقولة مشروخة بلا معنى مؤداها أن علينا أن نشكر أحدًا لأنه لم يقتل الثوار، فالقتل جناية عقوبتها الإعدام، وليس من المعقول أن يحمد لأحد أنه لم يرتكب جناية عقوبتها الإعدام!   الحقيقة أنه ليس هناك إنسان لا من المجلس العسكري الحاكم، ولا من مجلس الوزراء، ولا من غيرهم يحق له المن على الشعب المصري العظيم، وليس من المعقول ولا المقبول، وليس في إمكان مخلوق كائنًا مَن كان وما كانت مكانته أن يمرر بقاء مبارك وأسرته في "جنة" شرم الشيخ دون تحقيق نزيهٍ شفاف ومحاكمة عادلة أمام القاضي الطبيعي وإنزال العقاب بأيهم شأن أي مجرم على ما يثبت أن يديه جنت بحق دم المصريين، أو أموالهم.   لقد حُوكم رئيس الصهاينة السابق وحُكم عليه بالسجن سبع سنوات لجريمة واحدة هي التحرش بأنثى، وفي مصر وقعت عقوبات مغلظة على مَن حمل سكينًا أو سلاحًا يُروِّع الأبرياء، وكل ذلك طبيعي ومعقول.. أما غير الطبيعي وغير المعقول فهو أن يكون عقاب مَن اعتدى على مال وكرامة شعب بكامله على مدى ثلاثين عامًا وعلى حياة شهدائه أن يبقي مستجمًا في منتجع شرم الشيخ الحبيب المحبب إليه بين أسرته.   أما إذا كانت سياسة الدولة الجديدة بعد الثورة أن يُعاقب المجرمون بمنحهم الإقامة بفيلات في شرم الشيخ فإننا نطالب وعلى الفور بتعديل قانون العقوبات ليكون "قانون المكافآت"، وأن تحدد العطايا صعودًا بقدر عظم الجرائم فيُمنح سارق البيضة مسكنًا في نجع قاصٍ فقير جزاء خيبته، ويمنح القاتل مسكنًا في مدينة كبيرة، فإن تعدد القتلى مُنِحَ فيلا في حي راقٍ، وعندها يصبح طبيعيًّا أن يمنح المتهم قصرًا منيفًا بشرم الشيخ إذا كانت الاتهامات هي سرقة شعب بأكمله، وتجويعه، وإذلاله وقمعه وإهداء ثروته للصهاينة والتحالف معهم، وقتل مئات الشهداء، بل ربما يكون من العدل منحه لا قصرًا واحدًا بل شرم الشيخ كاملة جزاء ما قدمت يداه! ------------------- * رئيس محكمة استنئاف القاهرة

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل