استجابات متضادة لاستفتاء عظيم
عندما خرجت مع أسرتي لكي نقول نعم أو لا للتعديلات الدستورية, كنا فرحين كأننا في يوم عيد, وكان معنا أغلب جيراننا في شارع مصدق بالدقي, ونحن نتجه إلي المقر الانتخابي الأقرب إلينا في ديوان عام وزارة الزراعة. كانت الفرحة كأحاسيس التفاؤل والثقة في المستقبل القادم تغمر وجوهنا, وتملؤنا حيوية ونشاطا, ونحن في الثامنة صباحا. ووصلنا إلي باب المقر, فسمح الأمن لسيارتنا بالدخول, من أجل زوجتي المريضة لتنزلها أمام مقر اللجان مباشرة, وأفسحوا لها الطريق, وهي تتساند علي ابني لتدلي بصوتها في دقائق قليلة مع زوجة ابني, أما أنا وابني فقد آثرنا أن نقف في الصف الذي كان يتطاول كل دقيقة. ورجاني أحد المنظمين أن أترك مكاني في الصف وأدخل إلي اللجنة فورا. ولكني رفضت وحرصت علي البقاء, احتراما لمشاعر المواطنين, وحرصا علي أن أستمتع بالمشهد وأراقب سلوك الناس وانطباعاتهم, وسرعان ما اكتشفت أن الأكثرية, مثلا, يأتون للاستفتاء للمرة الأولي في حياتهم, خصوصا بعد أن أدركوا أن لصوتهم قيمة, وأن المهم ليس أن يقول: لا أو نعم للتعديلات الدستورية: فالأهم أن يقوم الواحد منهم بدوره السياسي في صالح وطنه العزيز عليه. ولم يكن أحد يسأل أحدا عما سيختار: نعم أم لا فالمهم هو أن يؤدي كل مواطن دوره. وتجلت خفة الدم المصرية, في أصفي حالاتها, عندما تعرض أحد الحاضرين للحزب الوطني غير المأسوف عليه قائلا: رحم الله هذا الحزب الذي كان يريحنا, ويدلي بأصواتنا دون أن نترك منازلنا. وتباري الجميع في التبكيت والتنكيت علي هذا الحزب الذي أبهجهم التخلص من رموزه الظاهرة. ودخلت حجرة اللجنة التي تحتلها أربعة مكاتب, أمام كل مكتب موظفان: أحدهما يراجع الرقم القومي وينقل بياناته, والآخر يسلمني ورقة التصويت التي تنتهي بدائرتين: واحدة لــ نعم والثانية لــ لا والمطلوب منك أن تذهب وراء الستار وحيدا دون رقيب, وتضع علامة علي الدائرة التي تريد. وفعلنا وخرجنا: أنا وابني والسائق, بينما سبقتنا زوجتي وزوجة ابني وحفيدتي التي كانت تتصور أننا في يوم عيد ولولا سنها التي تكمل السادسة لحصلنا لها علي ورقة مثلنا, ولماذا لا؟! فقد ظلت تسأل عن كل شيء, وعن كل فعل. ولم تترك الصف الذي فيه الرجال وتذهب إلي صف النساء المستقل, فقد كانت تمسك بيدي مرة. وبيدي أبيها أخري, وتسأل متي ستفعل مانفعل حتي تغدو كبيرة مثلنا. وكانت دهشتي بالغة عندما تركنا الباب الرئيسي لوزارة الزراعة فوجدت أن الطابور المنتظر أصبح ممتدا إلي مدي لم أكن أتخيل حدوثه. وعدنا إلي المنزل فرحين, ونحن نري البشر علي وجوه الجميع, وأمرت السائق أن يمر بنا علي بقية لجان الدقي, فرأينا زحاما لم أره من قبل, وإقبالا غير مسبوق. وقلت لنفسي: هذا هو معدن الشعب المصري الذي لو أتيحت له فرصة التعبير الحر عن احترامه لوطنه, فإنه يظهر المعجزات التي تكمل معجزة ثورة52 يناير التي كانت بداية عهد جديد لمصر. وظللنا في المنزل نتابع ما تبثه وكالات الأنباء العالمية التي تنقل كل شيء, بعد أن أصبح العالم قرية كونية صغيرة. ولم يعكر صفونا ما رأيناه من صور لافتات, في بعض الأحياء. تعلن أن قول نعم هو واجب شرعي. وكنت أعلم أن بعض غلاة تيارات الإسلام السياسي سوف يقومون بتديين هذا الاستفتاء السياسي الذي لا علاقة له بالدين, ولاحتي بالمادة الثانية من الدستور المعطل. ولكن هؤلاء علي استعداد لأن يدخلوا كل شيء يتصورونه متجاوبا مع مصالحهم في الدين. وكنت أعرف أن نعم ستؤدي إلي الإسراع بعقد مجلس الشعب الذي يقال إن أكثر الأحزاب القائمة تنظيميا واستعدادا لدخوله, هم الإخوان المسلمون والتيارات المتفرعة منها, أو المتآلفة معها, فضلا عن الحزب الوطني الذي لاتزال كوادره وعلاقاته وروابطه العائلية والطائفية والأسرية جاهزة. صحيح أن الأحزاب الشرعية الأخري يمكن أن تدخل حلبة انتخاب مجلس الشعب. لكن, ماذا عن الذين صنعوا الثورة ودفعوا دماءهم الغالية لها؟ ليس هناك وقت كاف أمامهم لإنشاء أحزابهم أو تجمعاتهم السياسية القوية. وتزايدت هواجسي مع قدوم الليل فقد اتصل بي أصدقاء وأقرباء من بعض أحياء القاهرة الكبري ومن مدينة المحلة الكبري, وأخذوا ينقلون لي صورا مختلفة عن الصورة الجميلة التي رأيتها في الدقي, وعن متطوعين من الإخوان والجماعات السلفية والجمعية الشرعية كانوا يقفون علي أبواب اللجان, ويقولون للداخلين إن حزب الله هو حزب نعم وحزب الشيطان هو حزب لا وإن الناخبات اللائي لايعرفن الكتابة كانت عضوات اللجان يقمن بالكتابة لهن. ويسألنهن: هل تختار لا الشيطان أم نعم الرحمن؟ والإجابة واضحة. وفي صباح اليوم التالي, فوجئت بصديقة تحدثني عما حدث في الدوائر الانتخابية من توجيهات تقول: إن نعم هي الإجابة الشرعية الوحيدة. ومنذ أيام, كنت أشاهد حلقة خيري رمضان التي أذاع فيها خطابا لإمام مسجد سلفي, هو الشيخ محمد حسين يعقوب, يصلي بعدد غير قليل من أبناء إمبابة, عن انتصار جند الله الذين قالوا نعم علي حزب الشيطان الذين قالوا لا ووصل به الأمر إلي أن قال: لقد طلبتم الديمقراطية, وهانحن قمنا بها فكانت النتيجة هي الانتصار الساحق لحزب الله, ومن لايعجبه ذلك من أهل البدع والضلال فليترك هذا البلد لأهله المؤمنين. وقال إنه يعظ المصلين بعد ظهور نتيجة الاستفتاء التي يري فيها عيدا من أعياد انتصار حزب الله. وكان واضحا من مفردات الخطاب أن صاحبه من السلفيين الجدد الذين يشبهون سلفي الماضي من أهل النقل في العداء للمعتزلة من أهل العقل الذين ظلوا في أعين خصومهم السلفيين: أهل البدع والزيغ والضلالة, وحلفاء الشيطان. ولولا حجم المقال لنقلت الكثير مما ذكره ابن الجوزي صاحب تلبيس إبليس من أقوال إقصائية وتحريمية للمعتزلة الذين أصبحوا أهل البدع والضلالات وأتباع حزب إبليس اللعين. ويعني هذا أن الصراع القديم بين المعتزلة وأهل السلف قد عاد ليطل برأسه من جديد بين من يرونهم السلفيون الجدد أنصار الدولة المدنية التي هي حزب الشيطان, بينما هم المدافعون عن الدولة الدينية الذين أصبحوا جند الله. وكأننا بعد كل ما استمتنا في تقديمه وكتاباته والمحاضرة فيه دفاعا عن الدولة المدنية التي هددها تحالف السادات مع تيارات الإسلام السياسي, وكان في هذا التحالف أخطر تهديد لوجود الدولة المدنية منذ ثورة.9191 وهو الذي أدي إلي نشأة الاحتقان وتوالي الفتن الطائفية التي لاتزال قائمة. ورغم إعلان المجلس الأعلي للقوات المسلحة التزامه بالدولة المدنية القائمة علي الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة, نعود إلي المربع صفر, وكأن كل ما حدث من تنوير واستنارة ودعوة إلي الدولة المدنية, ذهب كالهشيم في تيارات رياح سموم يبدو أن هدفها هو ألا تبقي, ولا تذر, علي دعاوي الدولة المدنية التي تبنتها جماعة الإخوان المسلمين مؤخرا, وأعلنت أنها في سبيل إنشاء حزب الحرية والعدالة ومبادؤه الأولي ذات شبه ـ حتي لو كان طفيفا ـ بمباديء حزب الرفاه التركي. وكم أرجو لأصحاب هذه الدعوة السياسية, من مستنيري الإخوان وعقلائهم, أن يقرأوا الدستور التركي, خصوصا بعد تعديلاته الأخيرة. والترجمة العربية متاحة, لمن يريد, في المركز القومي للترجمة. تبقي نقطة, أراها من الخطر بمكان, وهي أن دعوة الشيخ السلفي محمد حسين يعقوب في إمبابة, ضمن الفيديو الذي أذاعه خيري رمضان الذي يستحق التحية, قائمة علي احتمالات خطيرة تحدق بالمستقبل الواعد. وقد بدأت نذرها المخيفة تحدث بالوطن من جوانب كثيرة, وعبر وجوه متزايدة يتضاعف تأثيرها الذي يمضي, حتما, في اتجاه العداء للدولة المدنية قولا وفعلا وتنظيما وتجميعا للبسطاء من الناس, خصوصا في أطراف القاهرة مثل إمبابة وفي عشوائياتها, وفي المدن الصغيرة والقري, حيث ينافسون الإخوان المسلمين في التشدد الذي يقارب بينهم وجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية التي اغتالت السادات وغيره, وكادت تغتال نجيب محفوظ لولا عناية الله. والسلفيون الجدد أول ماتعرفهم بلباسهم الأبيض ولحاهم الطويلة. أما أفكارهم فقائمة علي التقليد المطلق لأفكار السلفيين القدامي التي أدت إلي حرق كتب الفلسفة والفرق الإسلامية المخالفة في ميادين القاهرة, وتعذيب المخالفين وقمعهم بالسجون البشعة. وهذا جزء من تاريخهم الذي كتبت عنه في كتابي نقد ثقافة التخلف. ولكننا بلد لاتقرأ للأسف وفي تقديري أن تحالف السلفيين الجدد مع المتطرفين من ممثلي الإسلام السياسي بمثابة أقوي المخاطر المهددة للدولة المدنية الآن. ولذلك أتوجه إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة ببعض المقترحات في هذا السياق: أ ـ ليس من الضروري أن نعيد تفعيل المادة الموجودة في الدستور الملغي, حول عدم السماح بقيام أحزاب علي أساس ديني, وإعادة صياغة المادة في شكل إعلان دستوري يؤكد أن المرجعية السياسية التي تفصل فيما يمكن أن يكون بيننا والمجلس من احتمال اختلاف, اليوم أو الغد, هو أننا دولة مدنية تقوم علي المواطنة التي لاتعني تمييزا من أي نوع, وفي أي اتجاه, بل تقوم علي المساواة الكاملة بين كل أبناء الوطن, رجالا ونساء, بغض النظر عن الدين أو المكانة الاجتماعية أو الثروة. ب ـ اقتران مبدأ المواطنة باحترام عقائد المواطنين جميعا, وعدم التمييز بين الأديان, والعمل الجاد علي الإفادة من قيمها العليا في بناء الشخصية الوطنية. ج ـ الديمقراطية التي هي السمة الملازمة للمواطنة, سواء فيما يتصل بحق التعبير والإبداع, والحق في الاختلاف والخلاف, واحترام حقوق الأقلية, عملا وتنفيذا كما لو كانت أغلبية. هـ ـ خطر تديين كل ماهو سياسي مدني, يستوي في ذلك المواطنون جميعا, فالدين لله والوطن لجميع أبنائه الذين يعيشون علي أرضه, ويعملون علي تقدمه. وـ تجريم الشعارات الدينية أيا كانت, وعدم استخدام رموزها في أي مجال سياسي, وتجريم استخدام دور العبادة كافة في كل ما يتعارض وقدسيتها وارتفاعها عن صراعات البشر أو اختلافاتهم السياسية التي ينظمها الدستور ويحميها القانون. زـ وضع مباديء قانونية للحفاظ علي هذه المقترحات, وعقاب من يخرج عليها بما يتناسب ودرجة تأثيرها السلبي في المجتمع أو الإخلال بالسلام الاجتماعي. وأعتقد أن مثل هذه المقترحات, لو تم تنفيذها, لكانت نتيجتها حصر الكثير من مخاطر الجماعات السلفية وغيرها علي مشروع الدولة المدنية, فالوضع أخطر مما يتصوره القائمون علي هذا الوطن في مرحلته الانتقالية الحالية التي أدعو الله أن تنتهي إلي خير. المزيد من مقالات جابر عصفور
Comments