مخالفة عكس اتجاه من "الثورة" إلى "التثوير" !! بقلم:محمود الزيات
مخالفة عكس اتجاه من "الثورة" إلى "التثوير" !! لم تكن الثورة المصرية مفاجأة فقط لمراقبيها ، بل كانت مفاجأة أكبر لمشعلي فتيلها والأمر بهذا المعنى يحمل مفارقة تقلب بداهاتنا السياسية رأساً على عقب فنحن (البشر) في المسار المعتاد للتحولات الاجتماعية الضخمة نزاول "التـثـوير" و "التحريض" و "تأصيل وتعميق" فكرة اليأس من الإصلاح أولاً ، ولفترات زمنية قد تطول أو تقصر ، ثم "استقطاب" و "تشكيل" و "تأهيل" و "تطوير" العناصر البشرية الكافية لإنتاج وإخراج التحول ثانياً ، ولفترات زمنية تطول أو تقصر هي الأخرى ، ثم يأتي النتاج بعد ذلك في صورة الثمرة الناضجة التي تدعى "الـثــــورة" ، والتي من المعتاد أن تبدأ بحدث عابر ليس شرطاً أن يكون الأكثر فجاجة في السجل الرديء للنظام القديم ، وإنما الاحتقان الثوري والوعي الثوري والجاهزية الحركية للعناصر والقوى الاجتماعية هي التي تكون قد بلغت حدها المناسب. ولكننا في الحالة المصرية وقبل بداية الثورة بيوم واحد كنا قد أوشكنا أن نصدق بإجماع أنه لا سبيل إلى تحريك أو تحرك الشارع ، وأوشكنا أن نصدق أن كل جهد يـبذل (بضم الياء) في هذا المضمار ليس أكثر من استصدار صك براءة تاريخي تقدمه الأجيال الحالية من المثقفين والمهتمين بالشأن العام ورموز مجموعات وتيارات المعارضة السياسية لأشباههم من الأجيال القادمة ، يعني ليس أكثر من تسجيل موقف. ولأجل هذه المفارقة فإننا (والـ نـا هنا عائدة على الشعب المصري أو دعني أكون أكثر تواضعاً وأقول القطاعات الواعية من الشعب المصري) نعيش حالة من التوتر والقلق مشفوعة بإحساس غامض بأن "أصغر عيل" من بقايا النظام القديم أو من العاملين بالأجرة لصالح توجهات خارجية قادر على تحويل مسار أو ضرب استمرار أو تفريغ مضمون هذه الثورة. بصياغة أخرى أقول إنه في الحالة المصرية قد تم إنتاج "الثورة" قبل أن يتم إنتاج "إنسان الثورة" ، أو قل قبل أن يتم إنتاج العدد الكافي بالكيف الكافي من العناصر البشرية الحاملة لجرثومة الثورة والتي تمثل الضمانة الوحيدة لاستمرار الثورة فاعلة حتى تستطيع إنجاز مهماتها الأساسية ، يعني تم إنتاج "الثورة" قبل أن تتضح معالم "الكتلة الثورية الحرجة" وهي الكم والكيف الكافي من القوى الاجتماعية القادر على تحويل مجتمع ما تحولاً جذرياً وضمان تثبيت هذا التحول ولو لفترة كافية لاحتسابه مرحلة تاريخية وليس مجرد "نـزوة" شعب. دعني أخرج من عباءة علم الاجتماع السياسي لأقول ببساطة إن لدينا مهمة أوجب وأعمق من كل مهمة ، وهي استدراك ما فات ولم يتم إنضاجه بالصورة الكافية ، وهو إنتاج جيل "ثـائـر" التي لا تعني "هـائـج" ، ولكن تعني "واعٍ" و "متـحـفـز" و "نـشـط". واعٍ لفكرة جوهرية تمثل أحد أعمدة مفهوم الثورة وهي المخاصمة الاستباقية لكل رموز النظام القديم وكل رجال الرئيس ، بحيث لا يتردد أحد أبداً في إقصاء أمثال أحمد شفيق الذي لاذ به مبارك لحظة التهاوي ! ، والذي أخذ وقتاً سمح للبعض بإتلاف مستندات وإخفاء حقائق ، وأعطى إشارات طمأنة لفئران النظام القديم للعمل بنشاط ومحاولة استجماع القوة والإفاقة من الصدمة لتشكيل رصيد للثورة المضادة ، وبحيث لا يتسامح الشعب أبداً مع المحافظين ورؤساء الجامعات وأمثالهم من الحائزين على رضا النظام الفاسد ، وبحيث لا يعطي الشعب كارت بلانش لقيادات القوات المسلحة للتصرف ، وتبرئته تبرئة مبدئية غير مبررة (إلا على مستوى المناورة والمقايضة السياسية) ، مع علمنا جميعاً أن المؤسسة العسكرية ورغم تقديرنا لموقفها النبيل جملة هي في النهاية مؤسسة من مؤسسات الدولة وليست جيش الملائكة الذي هبط علينا من السماء ، وأنها تحوي عناصر قيادية استفادت بالطبع من النظام القديم وتورطت معه في كثير أو قليل من ممارسات تكوين الثروات المشبوهة. واعٍ لفكرة جوهرية أخرى وهي فكرة التفرقة بين طليعة الثورة و الكيانات الثقافية والأيديولوجية المساهمة في الثورة ، فطليعة الثورة لابد أن تكون متماهية مع الكتلة الثورية الحرجة وممثلة لها أو على الأقل ليست في حالة تناقض معها ، وإلا فسوف تنتقل قيادة الثورة تلقائياً وشيئاً فشيئاً إلى الأوجه الممثلة للتيارات الشعبية الحقيقية ، وسوف تصرخ مجموعة الإشعال قائلة : "سرقوا منا الثورة ، وركبوا موجة الثورة ، و ...." ، يعني بوضوح أكثر وتطبيقاً على حالة الثورة المصرية ، فالمجموعات العلمانية واللادينية التي تمثل مجموعات ثقافية صاحبة دعوات ولا تمثل تيارات شعبية قد ساهمت بنصيب وافر (لايتناسب إطلاقاً مع وجودها في الشارع) في مجموعة الإشعال ، وبالطبع أمكن أن يحدث هذا لأن الشعارات التي رفعت كانت تمثل مطالب وطنية عامة تتعلق بالحرية والعدالة وإسقاط مجموعة لصوص يحكمون بلد ، ومن ثم لم يتم فرز أيديولوجي لوجوه التحرك في البداية ، خاصة وأنها وجوه شابة غير معرفة للعامة ، ولو تم هذا الفرز منذ البدء ، أو لو خرجت هذه المجموعات تحت شعارات أكثر تمثيلا لمحتواها الفكري لما حدث شيء من أصله ، وهذه مسألة تحتاج إلى مقال آخر أو دراسة خاصة. واعٍ لفكرة بسيطة وهامة تقول إن تفكيك المؤسسات لفحصها ونقدها وإعادة هيكلتها تعني أول ما تعني فحص آليات عملها ومواردها وصلاحياتها ، ولا تعني بالطبع تغيير إسمها ! ، ونأخذ مثالاً مثيراً للضحك : مسألة تغيير إسم جهاز أمن الدولة إلى جهاز الأمن الوطني أو غيره مع تغيير شكلي طفيف وغامض بجعل الجهاز جهازاً مختصاً بمقاومة الإرهاب ، ولك أن تعيش أوقاتاً جميلة في مناقشات لا تنتهي حول تعريف الإرهاب ومتعلقاته ! ، الأمر الذي يذكرني بنكتة تقول إن شاب يدعى أشرف جزر تقدم لخطبة فتاة فاعترضت على إسمه فغيره إلى أحمد جزر ، والحقيقة أن فساد جهاز أمن الدولة ينبع أساساً من خطأ هيكلي وهو انبثاق الجهاز من جهاز الشرطة مستصحباً لوائح عملها ومعتمداً على موارد بشرية من عناصرها ، وجهاز الشرطة في أصل تكوينه هو جهاز يزاول العنف القانوني وهذا أمر مقبول ، ولكنه غير مقبول بالمرة بالنسبة لجهاز معلومات ، الأمر الذي يفضي حتماً إلى تغطية الفشل في الحصول على المعلومات المطلوبة لتأمين الجبهة الداخلية بتعذيب عشرة مواطنين للحصول على معلومة من واحد منهم والاعتذار للتسعة أما ما يتعلق بالعنصرين الآخرين وهما "التحفز" و "النشاط" اللذان يرتبطان بمفهومي "الروح الثورية" و "المران الحركي" على الترتيب فأرجئهما لمقال آخر. ولقائل أن يقول : حسناً ، علينا إذن أن نكف عن استكمال مسيرة الثورة ، ونكف عن ملاحقة فلول النظام القديم ، ونكف عن تجفيف منابع الثورة المضادة واقتلاع جذورها ، لأننا لا نمتلك المقومات الكافية لاستمرار الثورة ، ونتفرغ أولاً للقيام بالمهمة الأوجب التي يفتي بها الموقع أدناه وهي إنتاج الكيانات الفردية والاجتماعية الجديرة باستكمال الثورة. والإجابة المباشرة هي بالطبع لا ، فهذا المجتمع قد دخل بالفعل في حالة ثورة ، الأمر الذي يعطي فرصة أكبر لنشر الوعي السياسي والاجتماعي والحركي اللازم ، والذي ينبغي أن يسير بالتوازي مع مضاعفة الجهد من طرف الكيانات الأكثر وعياً وجاهزية لتعويض النقص ، والسيطرة على محاولات التفتيت وإحداث الشروخ التي لن تكف فلول النظام القديم عن اصطناعها أو تغذيتها. وختاماً فالمطلوب من كل من يستطيع المساهمة باقتراحات تتلاقى وتتنازع وتتلاقح لإنتاج برنامج تهيئة ثورية لعناصر جديدة تصب في ساقية استمرار الثورة وتزيد من مساحة الكتلة الثورية ، الأمر الذي يمثل الضمانة الوحيدة (وأقولها مرة أخرى) لاستمرار الثورة. ،،،،،،، محمود الزيات
Comments