المحتوى الرئيسى

> «الحيرة».. عن الصراحة المؤلمة والصداقة المضحكة!

04/02 21:19

يقدم «الفيلم الأمريكي «The dilemma» أو كما عرض تجاريا في الصالات المصرية تحت اسم «الحيرة» نموذجًا لما نكرره دائمًا من أن الفن ليس في الأفكار ولكن في المعالجات المبتكرة لهذه الأفكار، الفكرة في العمل الفني مهمة ولكنها تبدو مثل ذرة الرمل التي تحرض وتستفز علي افراز طبقات اللؤلؤ.. لولا هذه الذرة ما كانت اللؤلؤة، ولكن القيمة بالتأكيد ليست في الذرة الرملية وإنما في تلك الطبقات التي تمثل في الفن المعالجات، بل إن آية التفوق والقيمة أن تذوب ذر ة الرمل «رغم أنها سبب وجود اللؤلؤة» وسط تلك الطبقات الثمينة والنادرة. فيلم «الحيرة» «وهي ترجمة ركيكة كما سنوضح» يقوم علي فكرة كان يمكن أن تصنع عملاً دراميا ثقيلاً يمكن أن يصل إلي حد التراجيدي وربما الميلودراما: صديق يكتشف بالصدفة أن زوجة صديقه العزيز جدًا تخونه، ولأنه يحب صديقه ويخاف عليه من الانهيار، فإنه يعاني صراعًا مريرًا بين أن يخبره أو يحجب عنه تلك المعلومة القاسية.. الحقيقة أن كلمة «The dilemma» تعني الورطة أو المأزق، أو الاختيار بين أمرين أحلاهما مر كما يقولون، ولكن الجميل والممتع حقًا أن صناع الفيلم الذي أخرجه «رون هوارد» قبلوا التحدي بأن يصنعوا من فكرة أقرب إلي المأساة والأزمة بمعالجة كوميدية تمامًا تعتمد علي مفارقات، مدهشة نسجت بمنتهي الذكاء، وكأننا مرة أخري أمام المقولة المأثورة التي تؤكد أن شر البلية ما يضحك، ولكن الكوميديا في «الحيرة» لا تعني الخفة و التسطيح كما في كثير من الأعمال المصرية، لأن المغزي الأخلاقي للحكاية كلها لم يفلت مرة واحدة، وهذا المغزي له طبقات متعددة من الاعلاء من قيمة الصداقة إلي التساؤل عن مدي قدرة الإنسان علي خداع الآخرين واخفاء حقيقته عنهم وصولاً إلي كون الحقيقة مؤلمة في أحيان كثيرة ولكن لا مفر من أن نقولها لمن نحبهم ونخاف عليهم. لم يتعامل صناع «الحيرة» مع الفكرة بخفة لمجرد أنهم يصنعون منها كوميديا، بل إن سر تفوق الفيلم كله أنه مصنوع بجدية كاملة، وما سيضحكنا طوال الوقت هو جدية الأبطال في التعامل مع ورطتهم، علي مسئول الكتاية، فإن البداية تكون دائمًا بالرسم الجيد لشخصيات أبطالنا الأربعة وخصوصا الصديقين الحميمين جدًا منذ عهد الدراسة وشركاء العمل: «روني فالنتاين» «فينس فوجان»، و«نيك برانين» «كيفين جيمس»، الأول أطول وأضخم وهو رجل مرح وذكي ويقترب من مدير الأعمال لشركة صغيرة يملكها مع صديقه وتقوم بتصميم المحركات الكهربائية لشركات السيارات الكبري، وعلي المستوي الشخصي فإن «روني» مرتبط بعلاقة عاطفية مع طاهية جميلة تدعي «بيث» «جنيفر كونيللي»، وبعد الإعلان عن زواجه منها في عيد ميلادها، أما «نيك» فهو أقصر قامة وأكثر طيبة وخجلاً، وهو مبتكر ومخترع وزوج سعيد للجميلة «جنيفا» «وينونارايدر» التي تشجع «روني» علي الزواج في أقرب وقت، في المشهد الأول يجتمع الأربعة ليتحدثوا عن فكرة أن يكتشف الإنسان حقيقة الآخرين فجأة رغم طول العشرة، ويسير السيناريو في اتجاهين: حياة «روني» و«نيك» مع «بيث» و«جينيفا» في جانبها العاطفي، ثم حياة الثنائي في حياتهما العملية حيث يحصلان علي تشجيع شركة سيارات كبري لتطوير محرك كهربائي فيما يشبه صفقة العمر، ولكن الصدفة وحدها هي التي تكشف لـ«روني» أن «جنيفا» «زوجة صديقه» تخون زوجها مع شاب كان يقبلها في حديقة زارها «روني» لكي تكون مكانا لحفل زفافه، في هذه اللحظة يبدأ الصراع ويلتقي الخطان معًا، «روني» يخشي تدمير حياة «نيك» العاطفية، كما يخشي أيضا أن يدمر عمله في انجاز المحرك الكهربائي المطلوب خلال فترة زمنية وجيزة، وفي كل مرة يبدو لنا الحل بإخبار «نيك» بالحقيقة سهلاً تظهر عقبات جديدة من انشغال «نيك» بعمله إلي حالته الصحية المتدهورة نتيجة الضغوط، وتتولد مواقف كوميددية غير معقولة حيث يقوم «روني» بما يشبه الاستفتاء مع شخوص يعرفهم ولا يعرفهم ليسألهم: هل اخبر صديقي بأن زوجته تخونه أم لا؟، وفي كل مرة تزيد الحيرة والتورط لدرجة أنه يتصل بأخته ليحدثها عن موقف في مسلسل يشبه حيرته، ولكنها تفهم الأمر علي أنه يريد أن يقول لها أن زورجها يخونها، ويتطور بناء الموقف الكوميدي فيما بعد إلي اكتشاف الاخت بالصدفة أن زوجها يخونها فعلاً! الحقيقة أن الفيلم كله يصلح لكي يكون درسًا في بناء الموقف الكوميدي وتطويره، فكلما تم اغلاق أحد الخطوط اضيفت مواقف تدفع الأحداث للأمام كأن يفضل «روني» اخبار «جنيفا» بأنه كشف سرها، ويطلب منها أن تقوم هي بالاعتراف لزوجها، ويتطور هذا الموقف إلي ابتزاز عكسي عندما تقوم «جنيفا» بتهديد «روني» بعلاقة عاطفية سابقة بينهما قبل أن يصبح صديقًا لـ«نيك»، وبسبب هذا الابتزاز يلجأ «نيك» إلي تصوير «جنيفا» مع صديقها ليكون ذلك دليلاً دافعًا يقدمه إلي صديقه، وبسبب هذا التصوير يشتبك «نيك» مع العشيق الشاب في معركة من أظرف ما يمكن أن تشاهد في حياتك وكأنهما طفلان يضربان بعضهما البعض، ولأن «روني» مدمن سابق للقمار فإن «بيث» تشك في أنه عاد للمقامرة، ويراقبه «نيك» فيجد أنه يقدم أموالاً لعشيق «جنيفا» لاسترداد الكاميرا التي تركها ولتعويض العشيق عن المعركة، هنا يعتقد «نيك» أن صديقه عاد من جديد إلي القمار فيحاول انقاذه بالاشتراك مع «جنيفا»، وهكذا تنمو طبقات ثمينة حول الذرة الصغيرة، وتكتمل لؤلوة حقيقية يستفاد فيها من كل التفاصيل والمواقف. ورغم اعتماد الفيلم علي الحوار اللاذع الذكي إلا أن الصورة لها حضور واضح خاصة فيما يتعلق بتوظيف مفردات المكان في قطعات المونتاج الذكية هناك مثلاً تناقض حاد جدًا بين تفاصيل الورشة التي يصنع فيها المحرك الكهربائي، وبين تفاصيل المشاعر الإنسانية سواء بين الصديقين، أو بين «روني» و«بيث» أو «روني» و«جنيفا»، وعندما يشتبك «روني» مع «جنيفا» مطالبًا إياها، بالاعتراف بالخيانة فإننا ننتقل بخشونة إلي صدام عنيف علي ساحة الجليد بين اللاعبين، وعندما يتلقي «روني» اتصالا من «جنيفا» وهي في المترو فإن النور ينحسر فجأة عن وجهه يتدخل بأكمله في الظلام وكأن الصورة تسبق التهديد الذي توجهه «جنيفا» إلي «روني» بالتلويح بعلاقة قديمة قبل أن يعرف «نيك» الحقيقة أن الصورة ودورها تتعلق بالأساس باختيار «فينس فوجان» و«كيفن جيمس»، الاثنان بعيدان تمامًا عن الوسامة الهوليوودية التقليدية، والاثنان تجاوزا سن الشباب، وهناك مشاهد كثيرة يجتمعان فيها معًا في لقطة متوسطة أو بعيدة فيثيران الضحك الأول بجسده الأضخم والأطول، والثاني بامتلائه وبقامته القصيرة، بالتأكيد الاثنان لديهما قدرات كوميدية عالية جدًا، ولكن التأثير كان سيصبح أقل كثيرًا لو اختير اثنان من النجوم الأكثر وسامة، المعني هنا أنك أمام شخصيتين عاديتين تماما يمكن أن يمِثلا أي مواطن أمريكي تقليدي وجد نفسه فجأة في ورطة، أما الزوجتان فهما بالطبع أكثر جمالاً حيث لعبت و«نيونارايدر» دورًا مميزًا للغاية لامرأة ماكرة وجميلة وقوية الشخصية ومتعددة الوجوه، ولعبت «جنيفر كونيللي» دورًا مقنعًا لامرأة عملية تريد الزواج والاستقرار وطبعًا يبرر الجمال في الحالتين أن تكون «بيث» موضع شك للحظات من «روني» وأن تكون «جنيفا» موضع صراع بين اثنين من الرجال. «رون هوارد» المخرج أستاذ حقًا في تقديم الكوميديا الإنسانية، إنه يشتغل أكثر علي الممثل أو الممثلة، وقبل ذلك علي كتابة الموقف نفسه، ولديه احساس رائع بالمونتاج وضبط القطع لكي يقدم الإفيه التأثير المطلوب، وهناك مشاهد حوارية طويلة لم نشعر ابدًا بثقلها، وفي النهاية أنت أمام لوحة إنسانية تمجد الصداقة والصراحة والنجاح في العمل، وتسخر من الخيانة والكذب والفشل، وفوق ذلك أنت تضحك بدلاً من أن تكتئب.. إيه الجمال ده كله؟!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل