المحتوى الرئيسى

الارض والهوية والانسان بقلم:آمال أبو خديجة

03/30 17:46

الأرض والهوية والإنسان ومع الذكرى الجديدة ليوم الأرض، هذا اليوم الذي لا ينسى من ذاكرة فلسطين، فتلك الأرض المسلوبة لن تمحى من ذاكرة الأجيال، ولن تمسح من خارطة العروبة، تلك الأرض التي هي عنوان لكل من سكن فيها، هي هوية ووجود، فالأرض هوية الإنسان الذي أنبتته، ولا بد أن يأخذ منها تشابه في المزايا والأوصاف، والأرض هي الحياة والعمران، فكلما ازدادت مساحتها في الحدود، كلما عُزز الوجود والكيان، والأرض هي التراث القديم مع الجديد، على سطحها تمشي خطوات الساكنين، وتزينها بأزاهير الزيتون والرمان . ومنذ ذلك التاريخ لبدء زمن الاحتلال لأرض فلسطين، وسيطرتها على جزء كبير من أجمل مواقعها، فاغتصبت عكا ويافا وحيفا وغيرها من عرائسها، وامتدت تلك الأسراب الصهيونية لتسطير على ما بقي من الأرض والإنسان، وها هي اليوم تمسح لعكا وحيفا ويافا معالمها، وتُسلب هوية العروبة من ملامحها، ويقيد ساكنيها الصامدين من بقايا فلسطين، لتَمنع عنهم أي حق في البنيان أو الترميم، ولا تمدهم إلا بإقرار بالهدم أو الإخلاء، لقد تغيرت شوارع حيفا لتعيش في اغتراب المكان، فمُحيت عنها أسماءها لتلقب من جديد، بأسماء لم يستطع اللسان نطقها، قد مزجت بألوان تلمودية وصهيونية، وقد أنشئت مدن تعالت أعناقها، لتقبع فوق ظهرها، وتغرق تاريخ وجودها، وها هي عكا بساحلها، تُمسح عنها أثار أقدام المصلين لمسجدها، وتوطن فيها سلاسل بشرية قد لُملمت من أقطار الأرض ومغاربها، وترى سورها قد اعتلا فوقه، نجمة زرقاء وشمعدان ثلاثية، وترى بحرها قد امتلئ بالفُلك تجري بين أمواجها، وقد ارتفع فوق شراعها، خطان متوازيين بلون أزرق كزرقة السماء، وأما زواياها العتيقة، وبين تلك الطرق التي لا تكاد تتسع إلا لشخص واحد، وفي تلك الأزقة القديمة، قد اختفت المخابز، وحمامات عكا الجميلة، وهُدم مكان الحلاق، المقابل لقهوة الساحلي، حيث كانت تتجمع مع المساء، أصوات الرجال وقهقهاتهم، لترتشف القهوة السوداء، وتستمع لأحاديث القصاص الجميلة . وها هي يافا الجميلة الحزينة، قد سرقت منها زينتها، وألبست ثوبا ممزقا لا يناسبها، فترى شط ساحلها، قد ملء بالأجساد المتكشفة العارية، واتسعت فيها مساكن اليهود، وهُدمت مساكنها الأصيلة، يافا التي كانت أشجار البرتقال والليمون هويتها، وتتلذذ النفس من أسماك بحرها، وتنتعش مع المساء برائحة الياسمين، وهبة النسيم من رياح شاطئها، فالآن ما عادت إلا رائحة كريهة، تسربت لجذور الأرض لتقتلها، وانتشرت في فضاءات المكان، لتُفرغ منها هويتها . فتلك الأرض التي حدثنا عنها الأجداد والآباء، وما تنعمت عيوننا برؤيتها، إلا بقليل في زمن الاحتلال، وكم رُسمت في تاريخنا صورا، لتلك الأرض المخفية من أمام أعيننا، لتسمى اليوم بمسميات مسحت عنها ملامحها، ويسرق في وضح النهار منها، تراثها ولغتها وقيمها، فالآن ما عاد لنا حقٌ فيها، حتى إن أردت زيارتها، لا بد أن تحصل على إذن ممن يسكنها، ولا بد من تصريح عبور لتمشي في شوارعها. تلك هي الأرض المسلوبة منا قبل أن تلدنا أمهاتنا، وولدنا نحن الأجيال على جزء من امتداد جسدها، وقد تراكضنا منذ الطفولة بين جبالها وسهولها، وتسابقنا في ربوعها لنقطف منها زهور الربيع، لنشكل سواراّ يقيد معصمنا، أو سلسلة تعلق في الأعناق لنعتز بهويتنا، فكانت ملاعبانا في فضائها الواسع نسابقها، وما كان هناك جدار يحيط بنا، ليقيد حراكنا وحقوقنا، ومع وجود وحش يطاردنا ويحيط بنا، كان في الخفاء كل ليلة، يتربص بنا ليصطاد فريسته للغداء أو العشاء، ومع الليل المظلم، كان ذاك اللص يحيك بنا مكرا، فخطط في كل لحظة، كيف يسرق راحتنا، فمنذ أن أدركنا الوجود، وتشاهد العين من مكانها القريب، لتلك الأرض التي زرعت قرب مزارعنا، فأنبتت نبتا لا يشبه نبتنا، ولا يحق لنا أن نزرعه على أرضنا، فزرعت تلك الأرض بأشتال القطن الأبيض، والتوت الأرضي، والفستق البني وغيرها، من ثمار قد حُرمت عليها مزارعنا، وما كانت تلك الأرض،إلا مُلكا لذلك الشيخ الكبير في حارتنا، قد مات قبل أيام قهرا وحزنا، على اغتصابها منه وسلبها، وتمتد المساحات الواسعة التي تطل من نافدة البيت، التي امتلأت بأجمل الثمار وأثمنها، ولكن مُحرم على أهلها الأصلين لمسها. وفي واقعنا القريب منا، ومع جريان الأيام والسنين بنضالها، لا تستطيع أن تذهب للأرض أو البستان، بل لم يعد لنا أرض ولا بستان، فهذا الجدار الملتف كأفعى حول مدننا، قد خنق الأرض، وجعل في جيدها حبلا مفتولا يقيد معصمها، وهذه البوابات الحديدية التي ثُبتت على أبواب المدن والقرى، لتمنعك من الخروج والدخول إلا بإرادتها، وتمنع أي مزارع أو إنسان فلسطيني، قطّعِ تلك المسافات المحدودة، وإلا سيطلق الجندي المعتلي فوق برجه، رصاص الموت فتشل حركته، وهذه أشجار الزيتون تبكي صاحبها، فما عاد يزورها ولا يؤنسها، وهذه عناقيد العنب قد اصفرت جذورها، فما عاد في البئر ماءا ليسقيها، وهذه الأرض التي تصحرت وجفت منها رطوبتها، فما عادت تخرج النبت المخضر، حتى تنتظر موسم الشتاء ليرويها، وها هو الفلاح المعتلي دابته، يُدق كمسمار أمام بوابة الذل قبل الفجر منتظرا، لعل ذاك المحتل تأتيه في القلب رحمة، فيشفق عليه، فيدخله لأرضه التي غادرها منذ الصيف الماضي . وها هي جبال فلسطين المزينة بألوان الربيع، تعطرها رائحة من ألوان تأسرك بجمالها، ولكن ذاك الجمال، ليس بعيداً منه، عدواً متربصا لتشويه ملامحها، سيأتي قريبا ليقطع جذور الزرع، ويفجر الجبال ويمحو صمودها، ليدق للاستيطان فيها مكانا، فأصبحت قمم الجبال الباقية لأرض فلسطين، تصورها تلك المستوطنات الغريبة، وجذورها تمتد لتدخل مدننا، لتزيح من فيها، ولتهبط عليها أبنيتها . لقد ضاعت لفلسطين شوارعها، فما عادت لها مسميات عربية تلمس تاريخها، وأصبحت المسميات عبرية، خطت باللغة الصهيونية على لافتات تصف على الطرقات، وبين المداخل للمدن، لا بد أن يكون هناك حاجزا للوقوف ساعات منتظرا إذن للمرور، ولعل الإذن لا يأتي، فتبيت على الطرقات، وعلى أرصفة الشوارع الممتدة داخل الضفة الغربية، تجد أسراب زاحفة من المستوطنين، تنتظر ساعة الرحيل لأماكن أخرى، وتعود مع المساء إلى وكرها أمنه، وقد أصبحت هناك جامعات، ومراكز شتى ثبتت في وسط مسكننا، لتخبرنا أنهم ليسوا راحلين عنا، وأن الأرض لهم وما عادت لنا . فهذا اليوم لذكرى الأرض، حيث أكل الحزن منا نصيبا، على أرضنا المسلوبة منذ خمسين عاما، لكن اليوم لا بد أن نبكي أنفسنا، وأن نخاف على ما بقي لنا من أرضنا، وأن نعد للأجيال مكان للعيش، فلا بد أن ينتهي زحف ذلك الاستيطان، وأن يوقف انتهاك الاحتلال للأرض والإنسان، لا بد أن نعلم أبناءنا منذ الصغر، أن لا تنازل عن حقنا في الوجود، فهذه الأرض أرضنا، ولا بد أن ينضجوا ليجدوا أرضا لهم يحيون عليها، فمن سيوقف ذلك السرطان الممتد إلينا، ومن سيزيل تلك البنايات المرتفعة فوق قممنا والسواحل الأرضية، من سيوقف عدوان المستوطنين على حقوقنا، حتى أثناء تنقلنا بين مدننا، من سيعيد للأرض كرامتها وعزتها، من سيهدم ذلك الجدار اللعين، الذي سلب من الأرض الكثير، وقطع أواصل الأرض والإنسان، ألا من يقظة قبل فوات الأوان، ألا من هبه في وجه المحتل الظالم، ألا من صرخة مستغيث بالنجاة، ألا من وحدة في الصف، وإنهاء للانقسام، لنفكر معا كيف نتحدى ذلك المرض المُخيف، وإلا أُصبنا بعدواه ولم نجد له الدواء . آمال أبو خديجة

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل