المحتوى الرئيسى

لا تعارُض بين حب الدنيا وحب الله والآخرة

03/28 15:31

بقلم: د. محمد منصور إنَّ حبَّ المسلم للحياة ومكوناتها، لنفسه ولوالديه ولزوجه ولأبنائه ولجيرانه وأقاربه وزملائه وأصدقائه وللناس عمومًا ولحُسْن العلاقات معهم، وحبه لماله ولعمله ولسفره ولترحاله ولترويحه الحلال، وللعلم والفكر والابتكار، وللإنتاج والإنجاز، ونحو ذلك ممَّا تشمله الدنيا وهو من أجزائها، لا يُنافِي مطلقًا حبَّ الله والرسول والإسلام والجنة! ولا يُعَدُّ أبدًا نوعًا من الضلالة أو البُعْد عنهم والانشغال والافتتان بغيرهم وبالدنيا!!.   بل هو فرعٌ منه ودليلٌ عليه وإثباتٌ له! مثل الشجرة، لها جذر، هو حب الله تعالى، ثم لها فروع وأوراق وأزهار وثمار، هي حبّ الآخرين وكل ما سبق من مكونات الحياة.   وهذه الفروع والثمار للشجرة هي الدليل على حياتها وحيويتها، هي الدليل على قوة هذه الشجرة وجودتها! فقوة حبّ الدنيا والاهتمام بها- إذن- وقوة عمرانها، وقوة إسعادها، وقوة السعادة فيها والانتفاع بها للنفس وللغير، بما هو حلال لا حرام، أي بما هو مفيد نافع مُسْعِد لا ضارَّ مُتعِس، هي دليلٌ أكيدٌ على قوة حبِّ الله ورسوله وإسلامه وآخرته وقوة التواصُل معهم!! هكذا بكلِّ بساطة وعمق، مثل المعادلة الرياضية!.   بل إنه سبحانه يحبّ ذلك ويَطلبه مِن خلقه ويُثيبهم عليه!؛ لأنه ما خلقهم أصلاً إلا لينتفعوا بالحياة ويسعدوا بها، كما يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات) أي إلا ليعرفوا، كما قال بعض العلماء، أي ليتعرّفوا عليَّ وعلى خيرات أرضي وكوْني ولينتفعوا وليسعدوا بها.. ثم لم يتركهم فيها هَمَلا يتخبطون بلا مُرْشدٍ، بل أتمَّ عليهم فضله ونعمه بأنْ أنزل الإسلام إليهم ليكون نظامًا ينظم لهم حياتهم فيُسعدها ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ (يونس: من الآية 58) (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: "معني الإسلام السعادة لا التكليف" لمزيد ٍمن التفصيل والتوضيح).   فليس معنى أنَّ المسلم يحبّ في قلبه وفكره الله والرسول والإسلام والآخرة ألا َّيكون فيه مكان لحبِّ أحدٍ أو شيء آخر دنيوي! وإلا، وبناءً على هذا المفهوم، لن يحبّ أحدٌ أحدًا! ولن يحبّ طعامًا ولا شرابًا ولا سكنًا ولا لبسًا ولا ركوبًا ولا عملاً ولا علمًا.. ولا شيئًا!! ولعَاشَ فظًا غليظًا كئيبًا!!؛ لأنَّ كلَّ إنسان في فطرته يحب ربه ورسوله ودينه وآخرته! حتى ولو كان عاصيًا! وهو مفطورٌ على ذلك حتى يحيا سعيدًا بهم وبالتواصُل معهم وبالرجوع إليهم! (برجاء مراجعة أيضًا مقالة: "برمجة العقل للخير أم للشر "لمزيد ٍمن التفصيل والتوضيح).   وبهذا المفهوم أيضًا، لو أحبَّ أحدٌ الوالدين أو الزوجة أو الأبناء أو الإخوان أو الجيران أو الأقارب أو الأصدقاء أو الزملاء أو أحدًا من الناس، أو أحبَّ عمله أو علمه أو ماله أو سكنه أو فنه أو غيره من حياته، فلن يكون هناك في قلبه مكان لحبِّ الله ورسوله وإسلامه وجنته! ما دام القلب لا يسع إلا حبًّا واحدًا!! إمَّا حبّ الله، وإمّا حبّ الدنيا!!.   إنّ صفة الحبِّ التي أعطاها الخالق لخلقه كإحدى صفاتهم الحسنة لتعينهم على تمام الانتفاع بالحياة والسعادة الكاملة فيها، هي صفة واسعة فضفاضة لا حدودَ لها! إطارها حبّ الله تعالى الخالق، وأجزاؤها حب المخلوقات.. والحب له ولهم يزيد وينقص على حسب قربه منه ومنهم، أو بُعْده عنه وعنهم.. وعلى حسب حُسْن أو سوء وكثرة أو قلة تعامله معه ومعهم.   إنَّ الحبَّ الحلال، أي المفيد المُسعِد، ليس جريمة!! بل هو أصلٌ من أصول علاقات الحياة وسعادتها، وبدونه تتعقد وتتعس!.   فعلاقة الإنسان عمومًا والمسلم خصوصًا بربه خالقه ومُرَبِّيه ورازقه ومُعينه، هي علاقة حبّ، كما يقول تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة: من الآية 54)، ولولا معرفته به وحبه له لافتقدَ أن يسعدَ باللجوء إليه والاستعانة به، ولولا حبّه سبحانه له، ما أعانه ولا وفَّقه ولا أسعده!.   وعلاقته برسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) هي علاقة حبٍّ ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: من الآية 6)، ولولا حبه له ما اتبّع أخلاقه فيتعس بإهمالها!.   وعلاقته بإسلامه حب ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 7)، ولولاه ما عملوا بنظمه وقواعده وقوانينه وسلوكيَّاته وَلفقدوا السعادة بهذا!.   وعلاقته بالمؤمنين ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 29)، ولولاه ما أجادَ التعامُل معهم وسَعِدَ به.   وعلاقته بوالديه حب ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (البقرة: من الآية 83)، ولولاه ما أحسن إليهم ولا بَرّهم ولا سعدوا بذلك.   وعلاقته بزوجته حب ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم:من الآية 21)، ولولاه ما تكامَلا وسعِدا.   وعلاقته بأبنائه حب، كما يقول أنس رضي الله عنه: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه مسلم) ، ولولا حبه لهم ما سَعِدَ بحُسن تربيتهم.    وعلاقته بإخوانه وزملائه حب: "لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" (رواه البخاري)، ولولاه لفقد طيِّبَ العلاقات النافعة المُسْعِدة معهم.   وعلاقته بالناس جميعًا بل وبكل المخلوقات حبٌّ نافع مفيد مُبْهِج "المؤمن إلفٌ مألوفٌ"  (رواه أحمد).   لقد أحبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الحياة وسَعِدَ وأسْعَدَ مَن حوله بها، وهو قدوة البشرية وهاديها لكلِّ خير ٍومُسْعِدها، فهل زاحَمَ هذا حب الله وإسلامه وجنته وآخرته أو أضعفه أو أزاحه مِن قلبه وفكره صلى الله عليه وسلم؟!، وهل يُمكِن أن يُقالَ عنه صلى الله عليه وسلم إنه مفتونٌ بالدنيا عن الآخرة وهو أعظم المُتوازنين فيهما؟!.   إنَّ الأدلة على ذلك كثيرة، أكثر من أن تُحْصَىَ ، منها مثلاً: حبّه (صلى الله عليه وسلم) لزوجه خديجة "إني قد رُزقتُ حبَّها" (جزء من حديث رواه مسلم). وحبه لصاحبه وصديقه أبي بكر الصديق ولابنته عائشة زوجته بعدها.. فعن عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: مَن أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة"، قيل: مِن الرجال؟ قال: "أبوها" (رواه الترمذي).   وحبّه لأبنائه وأحفاده.. فيقول مثلاً عن الحسن والحسين: "هما ريحانتاي من الدنيا" (رواه البخاري).   وحبه لصحابته الكرام، رجالهم ونسائهم وصبيانهم.. فقد أخرج البخاري في: باب مناقب الأنصار عن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين من عُرْس ٍفقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلاً فقال: "اللهمّ أنتم من أحبِّ الناس إليَّ"، قالها ثلاث مرات.   وحبّه لكلِّ المؤمنين والمؤمنات ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: من الآية 128).   وحبه للناس وللمخلوقات جميعًا ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: من الآية 107).   وحبّه للطعام الطيّب.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُتِيَ النبي (صلى الله عليه وسلم) بلحم ٍ، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه" (رواه الترمذي).   وحبّه للشراب الجيد.. فعن عائشة رضي الله عنها: "كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد" (رواه الحاكم وغيره).   وحبّه للثياب الجميل الأنيق.. فعن أم سلمة رضي الله عنها: "كان أحبّ الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم القميص" (رواه الترمذي).   وحبّه للعطر الحسن.. يقول صلى الله عليه وسلم عنه حبًّا فيه: "مَن عُرضَ عليه طيب فلا يردّه فإنه طيّب الريح خفيف المحمل" (رواه مسلم).   وحبه للمسكن وللمركب المُريح المُسْعِد.. يقول صلى الله عليه وسلم مُنبِّها لهذا: "من سعادة المرء، الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع" (رواه ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد بسند رجاله ثقات).. إلى غير ذلك من كثير أنواع الحبِّ لكثير ٍمن أشكال الحياة ومُتعَها الحلال مِمَّا يصعب حصره.   إنَّ الممنوع فقط من حبّ الدنيا هو الذي يؤدِّي إلى حرام، أي إلى ضرر ٍبالنفس أو بالغير وتعاسةٍ بهم في الداريْن، وهو المقصود مِمَّا وَرَدَ في ذمِّ الدنيا بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية الشريفة (برجاء مراجعة أيضًا مقالة: "معنى الحياة في الإسلام هي دار عطاء ٍأم بلاء؟" لمزيد ٍمن التفصيل والتوضيح).   فكن أيها الداعي إلى الله والإسلام مِمَّن يُحبِّون الدنيا ويَسعَدون بها وفيها في إطار حبِّ الله ورسوله وإسلامه وجنته وآخرته، وادع غيرك إلى مثل هذا،  ليكون دافعًا قويًّا لهم بإذن الله لحبِّ هذا الإسلام وإقبالهم عليه، ولِمَ لا؟ وهو الذي بذلك سيُحقق لهم أسعد حياة وأسعد آخرة.. وسيكون لك ولهم ثوابك وثوابهم وسعادتك وسعادتهم فيهما.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل