غزوة ( الدقون ) !بقلم:عماد محمد
لم يعد خافيا على احد ان مصر تشهد حراكا سياسيا واسعا ، من كافة الاتجاهات والأحزاب السياسية ، يتزعمها تنظيم الاخوان المسلمين ، والحركات السلفية الاسلامية ، التى ظهر جليا انها تسابق الزمن ، لانتهاز الفرصة الذهبية ، واقتناص امتيازات سياسية طالما حاولت السعي لها منذ اكثر من ثلاثة عقود مضت ، كانت تمنعها السجون والزنازين والقبضة الأمنية الحديدية من تحقيقها ، وجعلت دورهم يقتصر على المنابر والعمل الدعوي.. بعد سقوط النظام الفرعوني السابق ، تسابقت التنظيمات الدينية فى مصر بالإدلاء بتصريحات ، لايمكن وصفها فى نظري بأقل من ( قمة السذاجة ) السياسية ، وتظهر تخبطا هائلا فى أبسط مبادئ العمل السياسي وهي التحكم فى التصريحات على الأقل ، واسنادها لمتحدث رسمي عن كل تيار ، بدلا من ترك كل من له منبر يدلى برأيه بأسلوب واندفاع شخصي يخالف احيانا فكر التيار الذي ينتمي اليه ، وبالتالى يحسب الخطأ على التيار كله وليس على المتحدث فقط !... هذا التخبط خالف كل التوقعات التي كانت سائدة قبل انهيار النظام ، بأن التيارات الدينية وتتزعمها جماعة الاخوان المسلمين هي الاكثر تماسكا وتنظيما ووجودا فى الشارع المصري ، وأكثرهم حرفية فى ادارة النزاع السياسي مع أى طرف كان.. الحاصل فى الساحة الآن من ورود اخبار عن انشقاقات ونزاعات داخلية فى الاخوان ، وتصريحات غير مسؤولة اطلاقا من طرف بعض رموز التيار السلفى ، مثل الشيخ يعقوب بتصريحه الشهير ( غزوة الصناديق ) ، خلق مدا هائلا من الاستنكار والاعتراض على ( مفهوم الدولة الدينية ) تلقائيا ، ناهيك عن الهجوم الشرس الذي تقوم بيه الأحزاب والرموز الليبرالية المنادية بالدولة المدنية ، والتى تأتيها الفرص تباعا على أطباق من ذهب ، لكيل الاتهامات للتيارات الدينية ، وزيادة ترهيب المجتمع من ( خطر التشدد ) الذي يريد أن يفترس مصر! تحولت مصر فجأة الى ساحة نزاع ديني بين التيارات الاسلامية من جهة ، والليبراليين والأقباط من جهة أخرى ، وأصبحت كلمات التخوين اعتيادية تماما ، مع اصرار كل طائفة على ( استبعاد الآخر ) بصفة كاملة ، والإصرار بأن الآخر شرير جدا ، ولا يريد الا الفساد فى بر مصر.. الحقيقة اننى كنت ومازلت أحد المتحمسين لشكل ما من أشكال دولة الدينية فى مصر ، بعيدة عن كل النماذج المطروحة حاليا ، ولكنها تظل تحت مفهوم الدولة الدينية ، ربما لأنه من الأمور الشبه متعارف عليها فى مصر ، ان الدين له أهمية خاصة عند الاغلبية الساحقة لهذا الشعب ، بشقيه الإسلامي والمسيحي ، ولو لم يكن مواظبا على اداء شعائر الدين ، إلا أن احترامه لرجل الدين هو شيئ أساسي فى تكوينه ، و تراه ممتدا فى الطبيعة المصرية منذ تقديسه واحترامه للرهبان والكهنة فى الأزمان الغابرة..حتى لو اتضح له فيما بعد أن هؤلاء الكهنة كانوا سببا فى خداعه فى أمور كثيرة يقدمها هو عن طيب خاطر طمعا فى رضا الآلهة ، فيأخذونها هم ويقدمونها الى الفرعون ليرضى هو عنهم ! مصر دولة يستحيل فصل الدين فيها عن السياسة ، ولو ان هذا النموذج – فصل الدين عن السياسة – تم تطبيقه بطريقة ناجحة ، فستكون المرة الأولى التى ينجح فيها نموذج علمانى فى تاريخ بلد لم يخل فيه أثر واحد من ذكر الدين او الآلهة ، ومعظم آثاره – ان لم تكن كلها – ذات مدلول ديني ، تتنوع مابين معابد ومقابر ومومياوات ، وفلسفات حول الموت والبعث وضرورة الاستعداد لملاقاة اليوم الآخر ، ورضى الآلهة عن الفرعون والشعب..الخ !...تخيل أن يأت فى آخر الزمان و يناد المنادي فى هذه الأرض : افصلوا الدين عن السياسة ، نريدها دولة مدنية لا مجال فيها للخطاب الديني للتوجيه السياسي للناس او للحاكم !!...هذا سابع المستحيلات فى نظري ان يتحقق فى الواقع على الأرض ، مع امكانية تحقيقه فقط على الورق ، كأى شيئ آخر فى مصر .. فى تقديري ، سيلعب الدين حتما دورا مهما الفترة المقبلة ، وهو ليس بالأمر السيئ او المشين أبدا ، فقط عندما تجيبنى على السؤال الذي يطرح نفسه : من يمثل الدين حقا فى هذا البلد ؟.. هذه البلاد بها مؤسسات وتوجهات دعوية اسلامية لها نفس المنبع ، ولكنها مختلفة فى المجرى والمصب ، يمثل أهمها الازهريون والسلفيون والاخوان ، وكل منهم يهاجم الآخر بشكل او بآخر ، بطريقة تجعل الناس فى حيرة من أمرهم : من نصدق ؟ من نتبع ؟! من نثق فيه بأن يكون مؤهلا لتطبيق هذه الشريعة عن رضا وتوافق من الناس بأنه الأصلح لذلك ؟ الأزهر المتهالك الذى نخر الفساد عظامه على مدى نصف قرن كامل ؟أم الدعوة السلفية المتشددة المستوردة من جزيرة العرب وترتدي الجلباب والغطرة والعقال ؟ ام الفكر الاخوانى الذي طالما خاض فى شبهات كثيرة غير محسومة تاريخيا فى قضايا اغتيالات وتوترات فى مصر منذ نشات الجماعة ، والتهم الموجهة لهم دائما بالمتاجرة بالدين ؟... وعلى الجهة الاخرى كنيسة مضطربة محملة بالقلق دائما ، والتشدد وحدة الخطاب الدينيى المتزايد مؤخرا من بعض العناصر ، وأفكار فانتازية راسخة عن ( الغربة فى الوطن ) ، الى جانب تيار قبطي قادم من الخارج اصبح له صوتا مؤخرا يؤخذ فى حسبان صناع القرار الداخلى ، بغض النظر عن توجهاته وهل هي فى مصلحة مصر حقا ام مصالح دول اخرى تدعمهم ؟ فكرة تطبيق جوانب متعددة من الشريعة فكرة مقبولة لدى شريحة كبيرة من المصريين العاديين البسطاء ، وربما الغير متدينيين كذلك ، ولكن السؤال الملح مرة أخرى : من سيطبق هذه الشريعة ؟ هل سيطبقها من يقول : لو مش عاجبك عندك تأشيرات أمريكا وكندا ؟ هل سيطبقها من لا يصافح الآخرين ، ولا يضع حتى يده فى يدهم لمجرد اختلافه معه فى المنهج ؟هل هذا معقول ؟ هل سيطبقها من يعلو وجوههم الامتعاض فورا بمجرد سماعهم لكلمة ( نصاري ) و ( ليبراليين ) و ( علمانيين ) وتيارات مدنية اخري ، وأنهم شركاء الوطن ؟ هل سيطبقها من يقطعون آذان الناس المشتبه بهم ، او يطاردون الناس بالترهيب قبل حتى أن يكونوا أولياء امر ؟! هل سيطبقها من يقول : مدنية يعنى ايه؟يعنى أمك تقلع الحجاب !!...هل هؤلاء يطبقون امر الله اصلا فى تنفيذهم لقوله : " ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " و قوله " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ؟ أرى أن الأيام المقبلة فى مصر ستشهد المزيد من الاحتدام السياسي باسم الدين ، ماظهر منه حتى الآن مجرد نسائم ماقبل العاصفة ، اذا استمر الغياب الكامل لدور الأزهر المصري والكنيسة المصرية عن اداء واجبهمها الديني والدعوي ، وافساح المجال للتيارات الدينية الاخرى المتشددة سواء اسلامية او مسيحية للعب بحرية على الساحة السياسية والفكرية ..
Comments