المحتوى الرئيسى

علقة حب

03/25 08:20

كل شىء جائز إلا هذا الشىء. تتكلم الأفيال اللغة العربية. تأكل العصافير المهلبية. ترفض الأسود أكل اللحم وتفضل العسلية. لكن أن يقع أستاذ إبراهيم فى الحب بهذا الشكل، ومن أول نظرة، فشىء ولا فى الأحلام!                                       ■ ■ ■ أستاذ إبراهيم، رجل فى منتصف الثلاثينيات. يعمل مهندسا فى الكويت، أعزب عتيد، قصير القامة، له كرش وشارب كثيف وملامح جامدة، كئيب المنظر، واثق من نفسه، يسير فى تؤدة، ويرتدى البذلة الكاملة ولو فى عز الصيف. باختصار، رجل لا يقع فى الحب بسهولة. أو على الأقل لا يندلق بهذا الشكل الذى حدث له حين شاهد (مها). والحكاية أنه كان ذاهباً لزيارة خالته الأريبة التى تعرف كل شىء. وتُفاصل البائعين وتغلبهم، وتجيد الشهق لحظة فوران الملوخية. وتعرف أصل وفصل الجيران. وبينما هو يصعد الدرج القديم إلى مسكنها الواسع ذى الحجرات الخمس، ورغم ذلك لا تدفع إيجارا سوى خمس جنيهات! فإنه رأى حورية تنساب كالطيف إلى خارج المنزل. وقف مشدوهاً يحدق فيها. أحس بأنه يحلم أو يتوهم أو شرب عشرة أقداح من خمر. أو مات ودخل الجنة. يستحيل أن يكون فى عالمنا الأرضى مثل هذا الجمال الكامل النورانى. عيناها بحيرة عسل. شفتاها عنقود كرز. يداها الصغيرتان حمامتان بيضاوتان ترقدان داخل العش. وحين أفعم أنفه شذاها كاد يغمى عليه. مستحيل أن تكون هذه الحورية من جنس البشر. أغلب الظن أنها كائن سماوى رقيق، مخلوق من نور، هبطت من ثغرة سماوية إلى أرضنا الترابية. هذا هو التفسير الوحيد.                                       ■ ■ ■ مرقت الفتاة كحلم، وصعد إبراهيم الدرج إلى بيت خالته مأخوذا. بمجرد أن دخل البيت، وبعد التحيات والسلامات، والأحضان والقبلات، والسؤال عما مضى وعما هو آت، سألها مباشرة عنها، فقالت خالته الأريبة التى تعرف كل شىء: «اسمها مها، جميلة ومهذبة. لكن أخوها صايع ويسبب المشاكل لأهله. ولها معجبون من شباب الحى يتنافسون عليها». بعد هذا القول الفصل من خالته الأريبة أصبح الطريق مفتوحا إلى صالون العائلة مباشرة. البنت تحفة لا نظير لها، أما أخوها الصايع فلن يصل إليهما فى الكويت. كانت خالته تتكلم، وهو يهز رأسه شاردا، ويحلم.. آه لو صارت هذه الحورية لك يا إبراهيم!. آه لو تعود إلى البيت فتجدها تملأ البيت أنسا والكون بهجة. أخيرا ابتسمت الحياة لك. صبرت ونلت يا إبراهيم! تناول فنجان القهوة بسرعة وودع خالته شاكرا وقد أضمر فى نفسه أن ينتظرها عند مدخل البوابة ليملأ عينيه من حسنها عند عودتها.                                       ■ ■ ■ وبالفعل، لم يطل انتظاره، عادت الفتاة من الخارج بسرعة. مرت جواره كالنسمة فى ليالى الصيف. استوقفها وقال لها وهو يسبل عينيه: «ممكن كلمة يا آنسة؟». بدت عليها الدهشة والمفاجأة. وقبل أن ترد، سمع تفريغ صوت الهواء، ثم أحس بألم هائل فى أذنه اليُسرى، وصوت غاضب يشتمه صارخا: «إنت بتعاكس أختى فى بيتنا؟ سأؤدبك». وسرعان ما أقرن القول بالعمل. لكمة خاطفة فى جنبه اليمين، أتبعها بخطافيه فى بطنه المترهل، ثم مسح به الأرض عدة مرات. وانصرف الشاب الغاضب وهو يسب ويلعن. فانفتح باب الشقة فى الطابق الأرضى عن رجل يرتدى الفانلة الداخلية، غائم النظرات ينظر إليه فى غير اكتراث، فى بساطة من اعتاد رؤية هذه المشاهد يوميا. قال إبراهيم فى ضعف: «هو إيه اللى جرى؟». فرد الرجل فى بساطة: «ولا حاجة، عادى، أكلت علقة». اندهش أستاذ إبراهيم من البساطة التى يتحدث بها الرجل. ولا حاجة؟ عادى؟ أكلت علقة؟ ألا يعرفون من هو؟ أى شخصية محترمة تُفتح لها الأبواب، قال محتجا وهو يئن: ودينى لأوديهم فى داهية، آآآآآآه، هم مش عارفين أنا مين؟ آآآآآآآآآآآآه. قال الجار وهو يغلق الباب: «معلش أصل أخوها عصبى شويه، كل يوم يضرب واحد زى حضرتك كده». وفجأة، سمع صوتا صاخبا يسب الشاب، ثم شاهد رجلا يناهز الستين ينزل الدرج مسرعا، ويعتذر له، ويصر على دخوله البيت. قاوم إبراهيم قليلا متأثرا بكرامته التى بُعثرت، ثم استسلم ليد الأب الذى كان واضحا أنه- هو الآخر- عصبى! فى صالون البيت أغرقه الأب باعتذارات لا أول لها ولا آخر، خصوصا حينما عرف أنه مهندس وأعزب ويعمل بالكويت. جلس الأستاذ إبراهيم مشتت المشاعر بين إحساسه بالمهانة، وبين رغبته فى مد أواصر الود بينه وبين هذا الأب العصبى الذى يمسك بمفاتيح الكنز. ودخلت الحورية الغرفة، تسبقها عاصفة من الياسمين. وفى يدها الصغيرة صينية عليها فنجان الشاى وقطعة حلوى منزلية. قالت له: «آسفة». فغفر أستاذ إبراهيم ليس العلقة فقط، وإنما كل مصائب الحياة. الآن- وهو يحدق فيها مبهوراً- تأكد أنها جاءت من جنات عدن، من ثغرة سماوية.                                       ■ ■ ■ صارح الأب برغبته فى التقدم، فوعده بالرد عليه، وإن كان واضحا أن هناك موافقة مبدئية. مرت الساعة كحلم ثم انصرف مشيعا بعاصفة من الترحيب. هبط الدرج بساقين من المكرونة الطرية. قبل أن يخرج إلى الشارع سمع صوت تفريغ هواء، ثم ضربة سيف تشق الهواء نحو أذنه اليمنى. الذى حدث بعدها كان مكررا ويثير الملل، خصوصا حينما يتكرر فى ليلة واحدة. نفس اللكمات الساحقة الخطافية إلى بطنه الرخوة. ثم تم مسح البلاط به عدة مرات، وصوت شاب غاضب يقول: «جاى تخطبها وأنا بحبها؟ عاوز تخطفها منى؟!». كان واضحاً أنه أحد الشباب الصيّع المتعلقين بها، كان تشخيصها دقيقا حقا، خالته الأريبة التى تفهم كل شىء. واضح أن حوريته حين نزلت من السماء لحق بها بعض الشياطين.                                       ■ ■ ■ انتهت العلقة مثلما ينتهى كل شىء آخر، وكالعادة فُتح باب الشقة فى الطابق الأرضى، وظهر نفس الرجل غير المكترث الذى يلبس الفانلة الداخلية، إلا أنه لم يسأله هذه المرة عما حدث، فقد كان يعلم جيدا ما سيقوله له: «عادى! أكلت علقة. وهذا يحدث طيلة الوقت، وكثيرا جدا». [email protected]  

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل