المحتوى الرئيسى

> شمولية العلم

03/21 21:19

محاضرات أستاذ علم الإنشاءات الألماني الدكتور «آلف فلوجه» هي المحاضرات التي أكره أن تفوتني مهما كان السبب، كنت ربما في سن السابعة عشرة وطالبا في كلية الهندسة جامعة «هنوفر» بألمانيا الغربية في ذلك الوقت. كنت لا أحب المواضيع العملية وعلي الأخص الهندسة المدنية وأميل إلي عالم الخيال وشرود الذهن والفن والأدب والفلسفة هذا كله ولكن باستثناء محاضرات الأستاذ الدكتور «آلف فلوجة».. كان رئيس قسم الانشاءات في جامعة هنوفر وفيما بعد وصل إلي مركز مدير الجامعة علي الرغم أنه كان أستاذ انشاءات إلا أنه جاء أساسا من مجال صناعة الطائرات الألمانية.لذلك كان أفقه واسعا وعلمه غزيرا وكنت علي الرغم من استيقاظي المتأخر وكسلي في الصباح بسبب سهري طول الليل كنت استمع إلي محاضراته كما استمع إلي أم كلثوم وهو الذي شجعني فيما بعد علي دراسة علم «الثبات» وهو الذي وجهني لدراسة ثبات التصميمات «القشرة» وذلك هو الذي قادني في النهاية إلي دراسة «علم الشواش» والمساهمة في أبحاثه وكان ذلك بداية لتحولي من مهندس مدني إلي عالم طبيعة وذرة، أتذكر أولي محاضرات الأستاذ «فلوجه» كانت المحاضرة عبارة عن فيلم تم تصويره بالصدفة لوجود صحفي مصور أمام كوبري «تاكوما» المعلق في أحد ولايات أمريكا، كان المنظر عجيبا كوبري وفوقه سيارات وكان الكوبري «يرفرف» في العاصفة كما «يرفرف» العلم تماما.. كان الكوبري المعلق يتلوي يمينا ويسارا كما يتلوي ثعبان في زحفه علي الأرض، أخيرا بدأت بعض كابلات الكوبري تنقطع الواحدة تلو الأخري وانهار الكوبري برمته. لم أر في حياتي منظرا مثل منظر انهيار هذا الكوبري وقررت من يومها أن أدرس هذا الموضوع وبشغف بعد انتهاء عرض الفيلم وكنا جميعا في المحاضرة ساكتين وكأن الطير فوق رءوسنا، قال الأستاذ فلوجه هذه الظاهرة التي قادت إلي انهيار كوبري «تاكوما» هي ظاهرة لم تكن معروفة للمهندس الإنشائي الذي يعمل في الأعمال المدنية أما مهندسو تصمصم الطائرات مثله فهم يعرفون هذه الظاهرة خير المعرفة، الظاهرة تسمي بالألمانية وكذلك بالانجليزية «فلتر» وترجمتها بعربيتي الركيكة هي «الرفرفة» تماما كما قلت سابقا أي حركة العلم عند هبوب الرياح. بعد ذلك شرح لنا الأستاذ فلوجه أن هذه ظاهرة من عائلة من الظواهر المشابهة تعرف في علم ميكانيكة الاهتزازات باسم «روزوننس» وهي توافق بين حركة القوة المثيرة للاهتزاز مع الحركة الطبيعية للجسم المتأثر بهذه القوي الخارجية عند توافق كل هاتين الحركتين أي المثيرة والمثارة، تتزايد مسافة التردد وينتهي الموضوع بكسر الجسم المعني، أشبه شيء مبسط لمثل هذه الحركة التأرجحية هي دفع طفل علي أرجوحة بانتظام وبصفة مستديمة في هذه الحالة إذا لم يأخذ دافع الأرجوحة حرصه فسوف تنقلب الأرجوحة بالطفل إذا استمر الإنسان في الدفع بنفس القوة. مرت سنون عديدة ودرست أنماطا مختلفة من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية وفهمت في النهاية إن الانهيار المفاجئ لمبني أو كوبري هو من حيث المبدأ العلمي والوصف الرياضي نفس السبب الذي يجعل الماء يغلي فجأة عندما تصل الحرارة إلي درجة مائة أو عندما تظهر أنواع من المخلوقات والنباتات بعد ملايين السنين فجأة وهو ما يسمي في علم الأحياء بالانجليزية «موتاشن» وهي نفس الظاهرة الاجتماعية التي تسمي بالثورة، كل هذه الظواهر لها وصف متشابه وأساس علمي متشابه وهو ما كتبت عنه وحاضرت فيه من محاضرات عامة لا تخصص لها وأسميته شمولية العلم. الشيء الذي أريد أن أذكره هنا بدون الدخول إلي أي تفاصيل الآن هو أن العلوم والرياضيات التي استخدمها في ميكانيكا الكم وهي إلي حد كبير عبارة عن شبكات اتصال «فركتالية» هي إلي حد كبير نفس شبكات الاتصال في «الفيس بوك» أو «التويتر» هذه هي شبكات نظرية العالم الصغير الذي سبق أن تكلمت عنه في مقالات سابقة وأرجو أن تسمح لي الظروف لكي أكتب عنه بإسهاب في مقالات قادمة حتي نفهم معني التغيرات التي تحدث لنا هذه الأيام ونستطيع أيضا أن نبقي علي الثوابت التي تستحق أن نبقي عليها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل