المحتوى الرئيسى

"رماديات" جريس دبيات تضيء شعراً بقلم: نبيل عودة

03/18 19:30

"رماديات" جريس دبيات تضيء شعراً بقلم: نبيل عودة يقول الغزالي: "كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يتألفان ويزدوجان على وجه مخصوص، فيحصل من ازدواجهما علم ثلث". وللشاعر جريس دبيات ديوانان سابقان "فائتلفنا وازدوجا" ليتحفنا "بعلمه الثالث" ديواناً رمادياً. وما أدراك ما الرماديات...؟ ويجتهد جريس ليشرح لنا رمادياته: " تسائلني نويرة عن حروفي وما فيها سوى فحم المداد لم اخترت الرماد، وكيف ترضى تساوي بين شعرك والرماد؟ فقلت: يجوز من رمد بعيني فلا تجلو البياض من السواد كذاك يجوز من دنيا غرور تذر رمادها في عين صاد سأحرق أحرفي وألم منها رماداً يرتجى لنفاذ زاد." ومع ذلك يجوز ما لا يريد الشاعر أن يعترف به، الواقع الرمادي الذي يحياه شعبنا، وكل فرد فينا، فهو لم يقل "سواديات" لأنه ما زال متفائلاً: "إن نعم الله على الكفار في الدنيا كنعمه على المؤمنين" كما يؤمن المعتزلة. فهل أنضم جريس إليهم بعد أن طال غيابهم؟! أم هي محاولة لاختراق كابوس الواقع الذي نحياه، وليس الواقع السياسي فقط، إنما واقع الاختناق الاجتماعي والإنساني في ظل ما يفرضه علينا دخلاء جاؤوا ليرثوا الأرض وليرثوا التاريخ، وليرثوا الفرح، وليرثوا عشقنا لإنسان هذه الأرض؟! ولكن كما يؤكد جريس في قصيدة من "القدس إلى الفرات" "وقفنا لصد الظلم، إذ جاوز المدى. أباء، وكنا السدّ إذ طفح السيل وحيدين، والزيتون في القدس صامد ويشمخ في أرض العراق به النخل". جريس أعطى لهذه القصيدة المليئة بالتحدي، اسم "من القدس إلى الفرات" ولم يقل إلى بغداد، وهذا ليس صدفة، فقلبه مع الشعب العراقي، شعب الفرات، شعب "شاعر الفرات" وليس مع "النظام" بمفهومه السياسي الضيق، ويقول: " فرات ومرّ الكيد – لا بد – عابر فاسدُ الشرى ما حل غيلهم ذل وقدس – وليل الرجس – لا شك – سافر فلن يطمس اسم الله سيف ولا قفل". وهو هنا لم يستطع إلا أن يجند ما قاله مظفر النواب "للمتنافخين شرفاً" في "ليل الرجس" ليل اغتصاب القدس، واغتصاب حق الشعب الفلسطيني في ليل السواد العربي، الذي يصر جريس على تفاؤله وتسميته بالرمادي، حقاً لا يملك الشعراء غير التفاؤل، فهو نافذتهم للتحليق مع الكلمات لتصبح أقوى من جنازير الدبابات التي تشوه وجه الأرض الفلسطينية لتصبح القصيدة حجراً بيد طفل يتحدى مجنزرة.. فان حل التشاؤم تحل الهزيمة. شدتني بشكل خاص قصيدته التي تدفقت كلماتها وهو: "أمام مصحف عثمان في أستنبول" وهي مناسبة ليشغل فكرة فيما نعايشه. وكأن الزمان يعود: "ما جاز طرفي لمع ماسهم إن كان ما احتلوا أو اكتسبوا ويذيبني من شال فكهم وأطل فجر حيثما ركبوا خذني لتاريخ الورى عبراً لتنير دربي كيفما أتب" حقاً يا جريس تاريخنا يعرف طرق الخلاص، ويعرف طرق الصمود، ويعرف طرق الانتقام، ويعرف طرق التسامح وكل أمر جيد في حينه. " صفحاته الغراء شاهدة إن الرسالة مدّها العرب لما وقفت به تملكني مما أراه الفخر والعجب هذه الحروف ضمان وحدتنا مهما تمادى القوم واحتربوا". إلى أن يقول بثقة وتقريرية بعض الشيء، ويبدو أنه لم يكن مفر في ذلك. "الظلم مملكة وزائلة مهما علت في دارها الرتب" والآن لا بد من الاعتراف... انتظرت ديوان جريس دبيات الثالث، "رماديات" بشوق وترقب، وعلى لساني قول علي بن أبي طالب : "قيمة كل امرئ ما يحسنه" وجريس أثبت في دواوينه السابقة شاعريته، وإحسانه للنص، وللموسيقى المتدفقة بصياغة القصيدة، ومعرفته الواعية إن لشعرنا أيضاً "رمادياته" فيعلن بلحظة غضب على واقع نحياه: في زمان الرخص والذوق الهزيل وامتهان الحرف والشعر الجميل أصبح الإبداع شبه مستحيل" وجريس يتحدى هذا المستحيل مع باقة أخرى "من شعرائنا وأدبائنا، الذين لم تحل عليهم "الروح القدس" لإعلامنا المحلي، ولنقدنا المسيس، "نقد" العلاقات الخاصة، فيواجههم بلا تردد بصريح القول: "شاعر يحكم في كل الفنون يقرض الشعر فترويه السنون وهو لا حس ولا حتى جنون. حقاً واجهتني مشكلة حين كتبت عن ديوان جريس الثاني "تظلين أحلى"، فقيل لي أن هذا ليس نقداً؟ وأنا والله لست ناقداً، ولكن هل من نقد أخر؟ ويبدو أنه لا بد من سؤال، وليس بهدف الإجابة عليه: هل لدينا حركة نقدية نشطة، تتجاوز كتاباتي النقدية في تعاملها مع أدبنا المحلي؟! وسؤال أخر: هل للنقد مفاهيم ومقاييس محددة كالعلوم التطبيقية مثلاً؟! وهل النقد (في أدبنا المحلي) هو ممارسة البعض للعلاقات العامة، عبر اختيار "أسماء لامعة"، بتصميم وسبق إصرار وقبل الاطلاع على المضمون وهل هو إضفاء صفات بلا حساب على بعض "القرب المنفوخة" ليقولوا عني فيما بعد "ناقد كبير" أو "كاتب كبير"؟! الكتابة هي مسؤولية اجتماعية وثقافية وسياسية ومفاهيم "البعض" عن النقد يوازي مفاهيمنا عن "المتعاون" وأنا لن أكون كذلك، حتى لو بقيت لوحدي حاملاً السلم بالعرض. منذ أخذت قراري الواضح، بمتابعة إنتاجناً الأدبي المحلي، كانت الصورة واضحة لي، بأن قراري هو رد فعل على أجواء غير صحية، تهمل، ولا تمهل فقط، الأدباء الناشئين. البعض أقاموا لأنفسهم "عجولا ذهبية" يواصلون عبادتها، وهذا حقهم وزادهم فليهنئوا. لا أنفي أن الكثير من الأعمال النقدية كانت جادة وعميقة، وساهمت بدفع حركتنا الأدبية، ولكن للأسف هذه الأعمال تميزت بمحدوديتها وضيق مساحتها، وبتغيب لأكثرية الأسماء الأدبية. اليوم يوجد "تسيب" أدبي، مع ذلك توجد تجارب جيدة، وأدباء واعدون، ولكنهم يدفعونهم "للربع الخالي اليائس" ومن هنا تجيء إطلالاتي على الأسماء "غير اللامعة" وأجد عند بعضهم من يمدني بمساحة واسعة من الثقة، بأن خياري لهم كان صحيحاً ويتناسب مع مفاهيمي عن مسؤولية الكتابة، وخاصة النقد، والباب الذي يصح وُلوجَه لتنشيط حركتنا الأدبية وليس مراقبتها فقط. النقلة الأساسية في ديوان جريس دبيات "رماديات" هي قناعته الواضحة، بقدراته الفنية والأدبية؟ ربما نجد في الديوانين السابقين، خاصة الديوان الأول، جهداً للصعود نحو القمة، والكثيرون يصيبهم هنا ما أصاب سيزيف ، فيسقطون مع "صخورهم الشعرية" كلما دنوا من القمة. جريس يبدو واضحاً خروجه بثقة من "لعنة الآلهة" على سيزيف ولا يقاتل ليصبح لامعاً، يترك هذا للتاريخ... ربما نوع من اليأس؟! هذا الأمر لاحظته أيضاً لدى عدد من الشعراء وهو ما يجعلني أثق أن "الوعي الأدبي" يتجاوز "الحماسة" السيزيفية للوصول إلى القمة، وهو الضمانة للإبداع الحقيقي، حسب قناعتي. ولكن لا بد من سؤال، أيكون السبب في الجيل؟! فجريس يقول: "ما الذي أرجوه بعد الأربعين؟ نصف جسمي حمل أوجاع السنين نصفه الآخر بقايا أسبرين". قراءة ديوان "رماديات" لجريس دبيات تجعلنا نشعر بخيط رفيع من الحزن على أيام الشباب التي تولي. فنجده يقول في "اللوز المر". "لم يعد لي في جوازي صورة قد يطرب القلب إليها صفحة قد تختم العيد عليها سلمت للخمسين أوراق اعتمادي". ومع ذلك لا بد أن أقول أن جريس يبدع بتعبيراته عن هذه المرحلة، وهي لا تخلو من الرؤية الساخرة، من قبول الحياة بقانونها الصارم، والبحث عن الفرح، رغم كل شيء، وبإبقاء الذهن نقيا صافيا، لاذع الملاحظة، ساخراً من الظواهر، ومليئاً بالدعابة، بل وأحياناً الدعابة السوداء من الذات، وهي توازي تراكم التجربة الحياتية، وروح تفوح بشذا الشعر ورونقه، خاصة عندما تصوغها يد شاعر فنان: "ليس بالخلق ولا النص البديع أو بما تلقيه في إذن السميع إنما بالرشو يطريك الجميع" حقاً في كلمات جريس غضب، ولكن السخرية اللاذعة تشق قبلية الغضب إلى الابتسامة الساخرة، وهي أرقى أشكال الغضب. "ظل يحكي وأنا لا أنبس شاعر ينضح منه النرجس كدت أحكي قال: لا يا جريس!" ولكن جريس لم يصمت، هذه حقيقة، فها هو يعود ألينا بنفسه الشعري ساخراً أكثر من أي مرة، ولكنه متفائلاً رغم كل شيء، حتى لو قاده تفاؤله إلى الجحيم. "اتبعوني واسمعوا رأيي السليم واسلكوا خلفي طريقي المستقيم أسوأ الحالات، نمضي للجحيم". أبدا يا جريس، من يقرأ كلماتك وسيمفونياتك الشعرية، سيعزز تفاؤله رغم خيوط الحزن التي تمتد عبر مسارات رمادياتك، وسيجد نفسه بجحيم آخر.. جحيم الشعر الحقيقي. [email protected] - ولد جريس دبيات في كفركنا (قانا الجليل) – قضاء الناصرة سنة 1950 . انهى دراسته الجامعية في جامعة حيفا سنة 1970 في موضوعي الأسلام واللغة العربية . عمل منذ ذلك الوقت في تدريس اللغة العربية في المدارس الثانوية حتى خرج الى التقاعد سنة 2006 . ينظم الشعر منذ صباه ، الا انه مقلّ فيه ، وقد صدرت له ثلاث مجموعات شعرية هي : مع اطلالة الفجر سنة 1994 تظلين احلى سنة 1996 رماديات سنة 2001 كرمى لها (...)

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل