المحتوى الرئيسى

نظرة إلي المستقبلصلاح مرعي‮: ‬عازف الديكور والحياة

03/15 00:50

كان علي أن أقطع سلسلة مقالاتي عن ثورة ‮٥٢ ‬يناير لأودع واحدا من أكثر من أحببت في حياتي فاعذروني‮.‬رأيت صلاح مرعي لأول مرة في مكتب فنان السينما الرائع شادي عبد السلام كان ذلك ذات مساء من بدايات عام ‮٥٧٩١ ‬كنت طالبا في السنة النهائية في قسم الصحافة بكلية الاعلام بجامعة القاهرة وكان فيلم شادي‮ »‬المومياء‮« ‬قد بدأ عرضه في عدد من دور السينما بالقاهرة‮.‬يذكر من شاهدوا الفيلم في تلك الأيام أنه جاء كقنبلة سينمائية ناعمة وموسيقية شديدة الرهافة‮.‬اعتبره‮ »‬جون راسل تايلور‮« ‬اكبر ناقد إنجليزي في ذلك الوقت انه‮ »‬أهم فيلم خرج من القاهرة الإفريقية‮«.‬ذهبت إلي شادي في مكتبه في شارع ‮٦٢ ‬يوليو بوسط البلد لأجري معه حديثا حول فيلمه المدهش نشر الحديث في جريدة‮ »‬صوت الجامعة‮« ‬يوم ‮٧١ ‬فبراير ‮٥٧٩١ ‬بعنوان‮ »‬المومياء ليس فرعونيا‮« ‬وعنوان فرعي‮ »‬الطلاب هم الطريق الي سينما طليعية‮« ‬كان يحرر هذه الجريدة ويصدرها طلاب كلية الاعلام كل يوم اثنين من كل اسبوع تحت إشراف أستاذنا العظيم جلال الدين الحمامصي‮.‬دخلت من باب الشقة التي كانت مكتبا لشادي لأجد علي يميني حجرة مفتوحة علي صالة بعدها‮.‬في هذه الحجرة وجدت منضدة كبيرة عليها‮ »‬أباجورة‮« ‬مضاءة يقف بجوارها شاب منكب علي ورقة رسم عليها مسطرة طويلة وممسك بيده قلم رصاص سلمت عليه فعرفني بنفسه‮: ‬صلاح مرعي‮.‬لم تكن انحناءته علي المنضدة تظهر طوله الفارع ولا وجهه الخمري،‮ ‬لكن شعره الطويل نسبيا كان ظاهرا عرفت أنه يساعد شادي في تصميم الديكور والاكسسوارات وأن شادي كان أستاذا له في قسم الديكور بمعهد السينما‮.‬بعد قليل دخلت سيدة رقيقة الجسد والروح تحمل علي يدها طفلا رضيعا عرفني عليها بأنها زوجته‮ »‬رحمة منتصر‮« ‬التي اشتهرت فيما بعد بكونها من أفضل فناني المونتاج السينمائي وأن الرضيع الذي تحمله علي يديها هو ابنه الأول‮.‬هكذا بدأت رحلة صداقة بيني وبين أسرة صلاح مرعي واقع الأمر ان ارتباطي في السنوات الاولي من هذه الصداقة كانبشادي نفسه الذي كان أستاذا في نسج الصداقة مع تلاميذه تعرفت عليه كصحفي شاب في مقتبل حياته واستمرت علاقتي به حتي مات كنت اذهب إليه في كل الأماكن التي يعمل فيها‮: ‬مكتبه بوسط المدينة وستديو نحاس واستديو مصر ومركز الفيلم التجريبي الذي أداره في أكاديمية الفنون بالهرم هناك أيضا رأيت الممثل الرائع أحمد زكي لأول مرة‮.‬في كل هذه الأماكن كنت ألتقي بصلاح مرعي كان اقرب لي سنا من شادي وكان يعمل معه في تلك الفترة في تصميم ديكورات واكسسوارات فيلم‮ »‬إخناتون‮« ‬الذي كتب له القصة والسيناريو شادي عبد السلام ولم ير النور أبدا‮.‬في سنوات التسعينيات من القرن الماضي كنت مديرا لصندوق التنمية الثقافية وجاءني صلاح ذات يوم يحمل معه سيناريو فيلم‮ »‬إخناتون‮« ‬كان شادي قد توفي،‮ ‬وقال لي صلاح فيما اذكر أنه اقترح علي أخوة شادي بأن تقوم وزارة الثقافة ممثلة في الصندوق بإنتاج الفيلم بمفردها ان تمكنت أو بمشاركة أي طرف آخر تتفق معه وأكدت لي أخت شادي وأخوه هذا الاقتراح لكن الصندوق لم يتمكن من إنتاج هذا الفيلم ولم يجد من ينتجه أو يشارك في إنتاجه ربما بسبب عوامل ثلاثة‮:‬‮- ‬اشتراط صلاح وأسرة شادي بالالتزام التام بالسيناريو الذي كتبه شادي وبدون أدني تغيير‮.‬‮- ‬صعوبة العثور علي مخرج ينفذ هذا السيناريو‮ ‬غير شادي نفسه حتي إننا فكرنا في أسماء مخرجين أجانب رغم وجود رفض لفكرة أن يقوم مخرج أجنبي بإخراج الفيلم‮.‬‮- ‬ضخامة ميزانية إنتاج مثل هذا الفيلم والتي لم تكن تقدر عليها شركات الانتاج المصرية ولا وزارة الثقافة‮.‬خلال فترة إدارتي لصندوق التنمية الثقافية نظمت مهرجان السينما الروائية ثم انضمت اليه أفلام التسجيلية ليصبح اسمه‮ »‬مهرجان السينما المصرية‮« ‬وذلك قبل أن تنفصل السينما التسجيلية مرة أخري وتدخل في مهرجان‮ »‬الاسماعيلية الدولي للسينما التسجيلية‮« ‬الذي نظمه صندوق التنمية الثقافية أيضا وشغل فيه صلاح منصب نائب رئيس المهرجان وتعاون معي أكثر من مرة علي ما أذكر في مهرجان السينما المصرية وشارك في عضوية لجنة التحكيم وعندما بدأ الصندوق ينظم سمبوزيوم النحت الدولي في أسوان بقيادة النحات الكبير آدم حنين ساعده من أول عام صديقنا المشترك الفنان صلاح مرعي‮.‬أظهر صلاح مواهب متعددة علي ارفع مستوي في تنظيم هذا السمبوزيوم كان يشارك في النواحي الادارية والتنظيمية والفنية والمطبوعات ويخرج حفل الختام ولا أنسي ذات مساء ونحن في حديقة الفندق الذي يقيم فيه المشاركون في السمبوزيوم بأسوان رأيت ابن وبنت صلاح وكانا صغيرين يساعدانه في تعليق أضواء ملونة وتوزيعها علي شجر الحديقة كان نموذجا في التواضع ورقة المشاعر وكان فياضا بمشاعر الحب يغدق بها علي كل من حوله‮.‬وكانت تجربته الوحيدة في الاخراج السينمائي هي فيلم تسجيلي عن السمبوزيوم ذاته وسماه‮ »‬آفاق ‮٦٩«.‬وحتي بعد ان توليت رئاسة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري استعنت بصلاح مرعي في عضوية لجنة علمية لوضع أسس ومعايير التنسيق الحضاري للإضاءة والإنارة الخارجية رأس هذه اللجنة صديقي القديم الأستاذ الدكتور بهاء مدكور أستاذ الكهرباء بكلية الهندسة جامعة القاهرة وزامله فيها الصديق القديم فنان كاميرا السينما رمسيس مرزوق وقد صاغت هذه اللجنة أول دليل في مصر وربما في العالم العربي وأفريقيا يوضح أسسا علمية ومعايير فنية لإنارة الشوارع والميادين وإضاءة الواجهات والأعمال الفنية الموجودة في الفراغ‮ ‬العام في مصر واستغرق عملها أكثر من عام‮.‬كل هذا ولم ينفك صلاح عن العمل في السينما المصرية لكنه كان شديد العناية باختيار الأفلام التي يعمل فيها لذلك لم تتجاوز هذه الافلام الثلاثين فيلما علي ما أعتقد طوال حياته كلها من الأفلام المتميزة في تاريخ السينما المصرية مثل أفلام‮ »‬الجوع،‮ ‬الساحر،‮ ‬عفاريت الاسفلت،‮ ‬أبناء الصمت،‮ ‬وبحب السينما‮« ‬وغيرها،‮ ‬لم يكن تجاريا يسعي للكسب المادي،‮ ‬علي العكس كان زاهدا في المال ولم يخلف وراءه ثروة تذكر‮ ‬غير ولديه وزوجته،‮ ‬وهم ثروة لا تقدر بمال وفي سنواته الأخيرة أطلق العنان للحيته البيضاء تغطي وجهه واعتقد انه أطلقها أيضا كتعبير عن الزهد‮.‬كان آخر فيلم عمل فيه صلاح مرعي،‮ ‬وهو فيلم‮ »‬زهايمر‮« ‬تجسيدا لأخلاقه الرفيعة وروحه النادرة كان يعمل ويعالج من مرضه العضال كان ينتقل بالسيارة بين البلاتوه حيث يصور الفيلم،‮ ‬والمستشفي حيث يتلقي العلاج محتفظا بابتسامته المحببة محافظا علي شموخه الإنساني ومبدعا ببساطة أروع ما تكون‮.‬كان صلاح طوال السنوات الطويلة التي عرفته فيها واحدا من أنبل خلق الله يتمتع بصدق تلقائي يعبر عنه بصوته الخفيض الذي لم أسمعه عاليا أبدا‮. ‬واحد كان قادرا علي ان يجذب إليه كل من يعرفه ببساطة آثرة‮. ‬لذا كان واحدا من القلائل الذين رأيت كل من عرفوه يجمعون عليه بلا اختلاف‮.. ‬هكذا كان صلاح مرعي،‮ ‬وهكذا سيظل ويبقي في قلب كل من عرفوه‮.‬

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل