المحتوى الرئيسى

الفراق.. تبا له، ما أقساه..!!بقلم:طلال قديح

03/12 19:51

• طلال قديح الإنسان كائن حيّ، لكنه كتلة من المشاعر والعواطف تلتقي أحيانا وتتقاطع أحيانا أخرى.. وتبدو متناقضة متضادة..!! إلا أن جمالها في تضادها.. ولولا ذلك ما تبينت حقيقتها ولا وضحت أهميتها.. إنها معجزة الخالق سبحانه وتعالى الذي أبدع كل شيء صنعا! الإنسان ينام ويصحو ، يحب ويكره ، يغضب ويرضى ، يثور ويهدأ ، يصح ويمرض، يصادق ويعادي، يصاحب ويفارق.. إذن فهي سلوكيات فطر عليها الإنسان ولا خيار له فيها.. والبشر فيها ليسوا على وتيرة واحدة أو نمط ثابت..يتفاوتون بتفاوت الجنس والثقافة والتربية والمكان والزمان.. كل له خصائصه المميزة وسماته الفريدة. والخالق له حكمة بالغة في ذلك وهو الأدرى بشؤون خلقه وما يلزم لصلاح البلاد والعباد.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ما أسعد الإنسان باللقاء بعد الغياب! تنتابه مشاعر فرح عارم وسرور غامر ، تكاد الدنيا على سعتها تضيق أمام فرحه وحبوره وغبطته وسروره.. وهذا يحفر في الذاكرة ليبقى خالدا مدى الحياة. ولعله ليس من قبيل المغالاة القول: إن اللقاء والفراق هما الأكثر تأثيرا في مشاعر الإنسان، وكان نتاجهما فيضا غامرا من الأدب شعرا ونثرا يلامس القلوب فيملؤها إحساسا بالحنين والحزن والأسى .. وما الوقوف على الأطلال وبكاء الأهل والديار منذ العصر الجاهلي إلا ثمرة هذه المشاعر.وشعراء المهجر في العصر الحديث أبدعت قرائحهم شعرا وطنيا يميزه حنين جارف ولوعة لفراق الأهل ،وشوق جامح للعودة للديار بعد طول غياب. وما أقسى لحظة الفراق! إن ألم الفراق أضعاف الفرح باللقاء.. فيه تنهمر الدموع، وتتعالى الآهات، وتتصاعد الزفرات.. ويعلو البكاء والنحيب يستوي في ذلك الأخوة والأهل والحبيب .. يا لها من مشاعر صادقة وعواطف جياشة!! وأصعب فراق هو فراق الوطن الذي ولد فيه الإنسان وترعرع ..تغذى بخيراته وتنفس هواءه وشرب ماءه وصادق أبناءه..وعاش فيه أجمل أيام عمره..شعور لازم لا يفارقه أبدا.. ما أشد وطأة الفراق على النفس..! يملؤها هما وغما ويشحنها لوعة وأسى. لا شيء يعدل الوطن، فهو أغلى من النفس والمال والولد .. حبه لا ينافسه حب ولا يساميه حب وليس فوقه إلا حب الله ورسوله. من أجله ترخص التضحيات وتهون مهما عظمت. هب جنة الخلد اليمن لا شيء يعدل الوطن. ورحم الله شوقي إذ يقول: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي مهما بعدت الدار وشط المزار، وكثرت المغريات من مال ومنصب وجاه في دار الغربة فإن القلب يظل معلقا بالوطن مشدودا إلى رفاق الطفولة والصبا تداعبه أحلام وتغريه بالعودة وإن طال الزمن .. عدت إلى أرض الوطن بعد طول غربة.. تركته شابا في مقتبل العمر وعدت إليه شيخا اشتعل رأسه شيبا واعتراه الوهن.. وهذه سنة الحياة لا يحيد عنها أحد ! ولا يهرب منها أحد! إنها لحظات مؤثرة لا تنسى أبدا..وأخيرا اكتحلت عيناي برؤية الوطن وبقية من الأهل وأصدقاء الطفولة الذين شاخوا مثلي واعتراهم ما اعتراني.. كان لقاء حميميا اكتنفه بكاء ودموع وعناق. تنفست عميقا وأنا اعبر الحدود..لأملأ رئتيّ بهواء وطني المضمخ بأريج زهر البرتقال واللوز وعبق الميرمية والزعتر. هرعت مسرعا داخل البيت لأتفقد حاله وبقايا آثار أبي وأمي رحمهما الله..كل شيء تغير وتبدل لم يعد كما تركته.. حملتني الذكريات على جناح السرعة لأستعيد ما اندثر أو كاد من الماضي.أتأمل كل شيء وأقلب طرفي هنا وهناك لعلي أختصر كل الأيام الحلوة في دقائق معدودة. ما أروع عناق الوطن ، مسقط الرأس, ومربع الذكريات ! إحساس صادق بالانتماء إلى أرض الآباء والأجداد يشدني شدا قويا ويعمق لديّ الولاء اللامحدود لأرض كرمها الله بأن جعلها مهد الأنبياء والرسالات ، وملتقى القارات وحباها وفرة في الخيرات. أجدني حتى الآن مشدوها بما شاهدت وأحسست.. شعور تعجز عن وصفه العبارات مهما بلغت بلاغتها وجزالتها.. أستعيد تلك الأيام التي لا تتجاوز أسبوعين ، مضت سريعة كأنها سكرات الوصل في الحلم! وجدتها فرصة لأستثمر هذا اللقاء فأجول في ربوع الوطن مدنه وقراه لأرى ما وصل إليه .. وأزور بعضا من أصدقاء الطفولة والصبا .. فسعدت بهم وسعدوا بي .. واسترجعنا بعضا من ذكريات الماضي وما أجملها! جمعتني الصدفة بأصدقاء دراسة لم ألتق بهم منذ أكتر من 45 عاما.. جاء أحدهم من أقصى المغرب من ضفاف الأطلسي بينما جئت أنا من شاطئ الخليج العربي..إنها صدفة .. وكان لقاء ولا أروع! وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا ومضت الأيام كلمح البصر..وحان وقت الفراق.. وأي فراق ! إنه فراق الأهل والوطن..الأكثر إيلاما للنفس. ولو نعطى الخيار لما افترقنا ولكن لا خيار مع الليالي وأزف وقت الرحيل وتقاطر الأهل والأحباب وبدأ الوداع بالعناق الحار فعلا البكاء وانهمرت الدموع، لتعبر بصدق عما يربطنا من حب ووداد تجذّر في القلوب ورسخ في العقول. إنها لحظات مؤثرة مشحونة بأنبل العواطف وأرق الأحاسيس.. وانطلقت السيارة ليبدأ التلويح بالأيدي والألسنة تردد : إلى اللقاء.. إلى اللقاء! أجل إلى لقاء قريب إن شاء الله. ولا بد من غزة وإن طالت الغربة..!! • كاتب فلسطيني

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل