المحتوى الرئيسى

يوميات‮ ‬الأخبارالسلطان الرضيع

03/09 14:56

‮<< ‬من يصدق ان مصر حكمها يوما طفل عمره ستة شهور؟،‮ ‬جري ذلك في العصر المملوكي،‮ ‬وكم عرفت مصر من المضحكات المبكيات‮. ‬‮<< ‬لماذا العصر المملوكي؟لانه الاقرب إلي زماننا بل يمكن القول ان قيمه هي السائدة وبالتحديد في العقود الاربعة الاخيرة،‮ ‬اقول الاقرب لان المماليك وهم الاغرب عن مصر اخلصوا لها وحاربوا من اجلها وشيدوا حضارة عظيمة اكثر من اولئك الذين نهبوا مصر بشكل لم نعرفه منذ ايام مينا موحد القطرين،‮ ‬ما يجمع العصرين هو الشخصنة تركيز الدولة في شخص‮. ‬وبالتالي تصبح نظراته وحركاته وايماءاته ورضاه وغضبه بديلا للدستور والقانون‮.‬انني اتحدث عن العصر المملوكي الاول الذي كانت مصر فيه دولة مستقلة تحمي البحرين والحرمين‮.‬اما العصر المملوكي الثاني فهو الذي تحولت فيه إلي ولاية بعد استعمارها من قبل العثمانيين،‮ ‬وذلك عصر الفوضي الذي اختفت فيه الدولة وهذا ما ندعو الله ان يبعد مصر عنه،‮ ‬ورغم بشاعة ما جري فيه لم نعرف في مصادر التاريخ حدثا يشبه انسحاب الشرطة من الشوارع‮  ‬من المدن المصرية،‮ ‬هذا حدث مروع وحرب علي الشعب المصري شنها من كانوا اقسي عليه من الاجانب‮.‬خلال الفترة الاخيرة بدأ السباق نحو رئاسة مصر،‮ ‬ومع احترامي للشخصيات التي تحتل الواجهة فلا اري منها واحدا يليق،‮ ‬غير ان التاريخ يعلمنا امكانية تحقق اللامعقول،‮ ‬وفي هذه اليوميات استعيد حقبة اعقبت موت الملك المؤيد شيخ الذي قتل ابنه بالسم وبعد ان مات لم يجدوا إلا طفله الرضيع لكي ينصبوه سلطانا،‮ ‬كيف جري ذلك؟إليكم التفاصيلمن يحكم؟‮».. ‬فلما كان يوم الاحد سابع‮ ‬وعشرين ذي القعدة من سنة احدي وتسعمائة توفي الملك الاشرف ابوالنصر قايتباي المحمودي ا لظاهري،‮ ‬دفن في اليوم التالي،‮ ‬رحل بعد ان حكم مصر والديار الشامية تسعا وعشرين سنة واربعة اشهر وواحدا وعشرين يوما،‮ ‬كان سلطانا عظيما شهما،‮ ‬وقورا وافر العقل،‮ ‬سديد الرأي،‮ ‬يتروي في الامور قبل وقوعها،‮ ‬شجاعا،‮ ‬فارسا قديرا،‮ ‬وكان عصره من العصور الزاهية‮.‬بعد وفاته صار السؤال المطروح‮: ‬من بعده يلي الحكم؟ كان هناك عدد من المماليك يتربص بكرسي السلطنة،‮ ‬مثل الامير قنصوه خمسمائة وكرتباي الاحمر،‮ ‬ولما كان انقضاض احدهم علي السلطة سيفجر الصراعات والحروب،‮ ‬فقد جرت العادة في مثل هذه الاحوال علي تولية احد ابناء السلطان حتي لو كان طفلا رضيعا‮.‬وبمضي الايام تتم الغلبة لمن هو اقوي‮. ‬هكذا وقع الاتفاق علي سلطنة ابن السلطان،‮ ‬بايعه الامراء من‮ ‬غير موافقة والده الذي كان يلفظ انفاسه الاخيرة،‮ ‬وتلقب بالناصر،‮ ‬كان عمره اربعة عشر عاما واشهر،‮ ‬يقول ابن اياس‮: »‬ولو كان قايتباي واعيا لما مكن الامراء بأن يسلطنوا ولده،‮ ‬ولا كان ذلك قصده‮«. ‬ويبدو ان الاب كان يعرف ابنه جيدا،‮ ‬المهم احضرت شعائر الملك،‮ ‬وهي الجبة السوداء،‮ ‬وقد فصلت علي قده،‮ ‬ولفت له عمامة لطيفة مناسبة له،‮ ‬وقدمت اليه فرس النوبة بالسرج المذهب والكنبوشي،‮ ‬وتقدم الامير قنصوة وحمل القبة والطير علي رأسه،‮ ‬ومشي السلطان حتي جلس علي سرير الملك،‮ ‬وهكذا تولي امر مصر والديار الشامية حدث عمره اربعة عشر عاما دون البلوغ‮.‬‮<<<‬‮..‬تأسف الناس علي موت قايتباي،‮ ‬وخرجوا إلي جنازته،‮ ‬حتي ان ابن اياس يقول‮ »‬وكانت جنازته مشهودة بخلاف من يموت من الملوك‮« ‬ولم يستبشر الناس خيرا بالسلطان الجديد،‮ ‬ويبدو ان ظاهرة الحاكم القوي الذي يعقبه سلسلة من الحكام الضعاف تتكرر في التاريخ المصري،‮ ‬نجدها في العصر الفرعوني،‮ ‬رمسيس الثاني مثلا يموت،‮ ‬ويخلفه اثنا عشر من الرعامسة،‮ ‬لا يتوقف عندهم احد،‮ ‬خوفو الذي شيد الهرم الاكبر،‮ ‬ثم خفرع الاقل حجما حتي في هرمه،‮ ‬ثم منقرع،‮ ‬ثم ملوك اخرين‮ ‬غير معروفين،‮ ‬وفي تاريخنا الحديث بدأت الاسرة العلوية بمحمد علي باشا الكبير،‮ ‬وانتهت في القرن التاسع عشر بالخديو توفيق الخائن،‮ ‬والجبان،‮ ‬الذي نكب مصر بالاحتلال الانجليزي‮.‬هكذا جاء الناصر ابن الرابعة عشرة خلفا لابيه قايتباي العظيم،‮ ‬كان جميل الهيئة مليح الشكل،‮ ‬ولكنه هذا النوع من الجمال الذي يخفي في طياته القبح الداخلي‮. ‬والشر،‮ ‬والقسوة الزائدة،‮ ‬لم يشعر بحزن كبير علي والده،‮ ‬انما راح يمعن النظر فرحا في السلطة التي اصبحت فجأة بين يديه،‮ ‬الامراء الكبار يقبلون له الارض بين يديه،‮  ‬الخليفة يمشي منكس الرأس،‮ ‬الكل يسعي اليه،‮ ‬ويطلب وده،‮ ‬لا شيء يحول دون تحقيق رغباته،‮ ‬في نفس الوقت عظم امر الاتابكي قنصوة خمسمائة إلي الغاية،‮ ‬حتي انه لم يصل مع السلطان صلاة عيد النحر،‮ ‬ولا صلاة الجمعة،‮ ‬وفي بداية عام اثنتين وتسعمائة شعر السلطان ان الكل يتربص به،‮ ‬فأحضر المصحف العثماني‮. ‬وحلف عليه سائر الامراء والعساكر،‮ ‬ولم يطلع قنصوة خمسمائة ولم يحلف في بداية الامر علي الولاء للسلطان،‮ ‬ولكنه طلع بعد ايام وحلف أيمانا‮ ‬غير صادقة،‮ ‬ويبدو ان السلطان الغلام شعر ببعض الاطمئنان بعد القسم،‮ ‬لم يكن شيء يحول دون تحقيق شهواته،‮ ‬بدأ طيشانه يظهر،‮ ‬في احد الايام قبض علي امرأة،‮ ‬وضربها بين يديه بالمقارع،‮ ‬وامر بإشهارها علي حمار وفي عنقها زنجير حديد،‮ ‬وهذا شيء لم يحدث قط من قبل،‮ ‬ان تضرب امرأة بين يدي سلطان،‮ ‬بل انه ضربها بنفسه،‮ ‬وبدا متلذذا بالضرب،‮ ‬مستمتعا به،‮ ‬ثم بدأ في النزول من القلعة ومصاحبة الاوباش،‮ ‬واللعب معهم،‮ ‬وتدخين الحشيش،‮ ‬واتيان الرذائل واضطر الامراء إلي احاطته بأربعة من الحاشية لمنعه من النزول واللعب مع اولاد العوام وصار الأمير تاني بك الجمالي يبات عنده كل ليلة في القلعة ليمنعه من ذلك،‮ ‬ولكن رغبات السلطان كانت اقوي،‮ ‬وشهواته اعنف،‮ ‬وطيشه اعظم،‮ ‬ولم يكن يهتم بمظاهر السلطنة،‮ ‬في ربيع الاول‮  »٢٠٩‬ه‮« ‬اقام السلطان المولد النبوي،‮ ‬وكان حافلا،‮ ‬وكان اول احتفال عام يقيمه،‮ ‬ويحضره،‮ ‬جلس بين الامراء،‮ ‬وفجأة اعتراه النعاس،‮ ‬واضطر الامراء الي رش الماء علي وجهه حتي يفيق،‮ ‬في هذه الفترة بدأت الاطماع تتحرك،‮ ‬في جمادي الاول تزايدت الاشاعات بوقوع فتنة كبيرة،‮ ‬وفي مثل هذه الحال تغلق الاسواق تقفر الطرقات،‮ ‬ويقبع الناس خلف جدران بيوتهم ينتظرون نتيجة الصراع،‮ ‬وللمرة الثانية يحضر السلطان المصحف العثماني ويحلف الامراء والجند عليه،‮ ‬ولم تمض عدة ايام حتي تحرك الامير قنصوة،‮ ‬ركب بعساكره،‮ ‬وملك باب السلسلة،‮ ‬ثم جلس وارسل يستدعي امير المؤمنين الخليفة المتوكل،‮ ‬والقضاة الاربعة،‮ ‬وسائر الجند،‮ ‬فلما تكامل المجلس تشاوروا في خلع السلطان الناصر وسلطنة قنصوة،‮ ‬وبالفعل قرروا خلع السلطان تشاوروا في ذلك وكتبوا محضرا،‮ ‬وشهد فيه الكثيرون،‮ ‬وبويع الامير قنصوة بالسلطنة وتلقب بالاشرف ابي النصر،‮ ‬وقبل له الامراء الارض والعسكر قاطبة،‮ ‬ونودي باسمه في القاهرة،‮ ‬وارتفعت له الاصوات بالدعاء،‮ ‬ولم يتبق له إلا ان يركب فرس النوبة،‮ ‬ويلبس الجبة السوداء،‮ ‬والعمامة السلطانية وتحمل علي رأسه القبة والطير،‮ ‬والاهم من ذلك كله صعوده إلي قلعة الجبل،‮ ‬وجلوسه علي سرير الملك،‮ ‬والاستيلاء علي القلعة في العصر المملوكي كان هو الفيصل في الصراع،‮ ‬كان سقوطها يعني استلام السلطة بشكل كامل،‮ ‬ويعكس ذلك مركزية السلطة الشديدة في مصر،‮ ‬ولكن وقعت عجائب،‮ ‬وغرائب،‮ ‬كما يقال‮:‬ستقضي لنا الأيام‮ ‬غير التي‮ ‬غدتويحدث من بعد الأمور أمور‮<<<‬كل الأمور مهيأةأرسل السلطان الجديد بعض‮ ‬الامراء الي القلعة للقبض علي الملك الناصر،‮ ‬ولكن جماعة من مماليك أبيه تعصبوا له،‮ ‬وتصدوا للامراء،‮ ‬وكان علي رأسهم خال السلطان الناصر،‮ ‬ودار القتال في القلعة،‮ ‬واستمر حتي يوم الجمعة مستهل جمادي الاخرة،‮ ‬في هذا اليوم اصاب قنصوه سهم سقط مغشيا عليه،‮ ‬فحمله الغلمان علي اكتافهم،‮ ‬وبقي لباسه بدكته ظاهرا للناس،‮ ‬ورأسه مكشوفة،‮ ‬وهكذا فقد السلطان الجديد هيبته،‮ ‬واختفي في القاهرة،‮ ‬فلما انكسر نزّل مماليك السلطان الغلام،‮ ‬ونهبوا الامراء والخليفة،‮ ‬وخطفوا عمائم القضاة ونوابهم وفي اليوم التالي طلع الخليفة والقضاة الي القلعة،‮ ‬لتهنئة السلطان الغلام بانتصاره،‮ ‬وبايع الخليفة السلطان الغلام مرة ثانية بعد ان كان قد خلع منها،‮ ‬انعم السلطان علي خاله الذي صار صاحب الحل والعقد بالديار المصرية،‮ ‬وصار السعي الأرباب الوظائف من بابه،‮ ‬وبعد عدةأيام ظهر الامير قنصوه مرة اخري،‮ ‬ولكن لم يتحمس الجند للوقوف معه،‮ ‬فاضطر للهرب مرة اخري خارج القاهرة،‮ ‬ولم يمض وقت طويل حتي قتل،‮ ‬غير ان تمرد قنصوه جعل السلطان الغلام مهددا باستمرار،‮ ‬حتي ان بعض المماليك اقترحوا تغيير لقب السلطان،‮ ‬ولقبوه بالملك الاشرف علي لقب أبيه،‮ ‬واحتج بعض الامراء،‮ ‬كيف يكون ذلك وقد خرجت المناشير الي كل البلاد باللقب الاول،‮ ‬ولكن المماليك صمموا،‮ ‬وعند ذلك نودي في القاهرة ان السلطان تغير لقبه،‮ ‬الي الملك الاشرف،‮ ‬فتعجب الناس من ذلك،‮ ‬وصار الخطباء فريقين بعضهم يخطب باسم الملك الناصر،‮ ‬ومنهم من يخطب باسم الملك الاشرف،‮ ‬وقع الاضطراب في كل شيء،‮ ‬وهجم المنسر علي سوق باب اللوق وسوق تحت الربع،‮ ‬وقطع العربان الطرق في الريف،‮ ‬وبرغم اضطراب الاحوال،‮ ‬فإن السلطان الغلام لم يتعظ ولم يثب الي رشده،‮ ‬بعد انتهاء الفتنة اندفع في سلوكياته أكثر قوة،‮ ‬وأشد‮.‬‮<<<‬اختار السلطان الغلام عددا من اللصوص،‮ ‬والاوباش،‮ ‬فصاحبهم،‮ ‬ولازمهم وصنعوا له مركبا صغيرة،‮ ‬جعل فيها حلوي وفاكهة وجبن مقلي،‮ ‬وكان ينزل بنفسه في المركب،‮ ‬ويبيع كما يبيع الباعة في بركة الرطلي زمن فيضان النيل،‮ ‬وكان يقلد أصوات الباعة،‮ ‬ويبدو مسرورا بتمثيله دور البائع،‮ ‬ثم يظهر لمن يلعب معهم فجأة القسوة،‮ ‬يذكرهم بأنه السلطان،‮ ‬واذ يري رعبهم منه يضحك،‮ ‬يضحك مسرورا،‮ ‬وفجأة امر بالقبض علي سبعة من أهل الفساد الذين كانوا يلعبون معه،‮ ‬ادخلهم الي الحوش في وسط القلعة،‮ ‬أمر بقيدهم،‮ ‬ثم استدعي المشاعلي‮ »‬الملكف بإعدام الناس‮«‬،‮ ‬وطلب منه ان يعلمه كيف يوسطهم،‮ ‬فراح المشاعلي يعلمه ذلك أمام رفاقه في اللعب،‮ ‬وهو يختلس النظر بين الحين والحين إلي وجوههم مستمتعا برعبهم ثم تقدم منهم،‮ ‬امسك بالسيف،‮ ‬وبدأ بأن قطع ايديهم،‮ ‬ثم قطع آذانهم،‮ ‬ثم قطع ألسنتهم بيده،‮ ‬وكلما علت صرخاتهم،‮ ‬كلما ازداد قسوة،‮ ‬وازداد متعة،‮ ‬وبعد ان وسطهم جميعا،‮ ‬دخل الي قاعة الملك ليدير امور الدولة،‮ ‬لقد رأي الذعر الانساني،‮ ‬واشبع عينيه فرأي الدماء،‮ ‬انه يريد ان يري ذعر الحيوانات،‮ ‬امر بإحضار عدد منها وقطعها بيده،‮ ‬ثم امر بإحضار عدد من الحيات السامة،‮ ‬فقطعت بحضوره،‮ ‬وبعد انتهاء تقطيعها اهدي من قاموا بهذه العملية الخلع والهدايا‮.‬العيدالامور تضطرب،‮ ‬يجيء الصيف‮ ‬ويشتد الحر،‮ ‬يعز وجود السقايين،‮ ‬يتكالب الناس علي الجمال التي تنقل المياه من النيل حتي انهم تخانقوا بالعصي،‮ ‬يتزايد اذي المماليك،‮ ‬ينزلون الي الاسواق ويعترضون المارة،‮ ‬يخطفون العمائم،‮ ‬وخطف العمائم من الأمور الشائعة،‮ ‬في هذا الزمان لان الناس اعتادوا وضع نقودهم في لفات القماش التي تحيط بالعمامة،‮ ‬إلا من مفتقر تماما،‮ ‬والسلطان كلما تقدم به السن لا يعقل ولا تدركه حكمة،‮ ‬في يوم التاسع والعشرين من شهر رمضان عام ‮٢٠٩‬ه،‮ ‬يأمر السلطان بأن تدق الكوسات في القلعة،‮ ‬يقول لمن حوله‮ »‬أنا أعمل العيد في الغد من هذا الشهر ان رأوا الهلال أو لم يروا‮«‬،‮ ‬فلما اشيع ذلك بين الناس ركب قاضي القضاة الشافعي زين الدين زكريا وطلع الي القلعة،‮ ‬فاجتمع بالسلطان وراح يشرح له ان العيد لا يكون شرعا إلا اذا رئي الهلال،‮ ‬وشق الامر علي السلطان،‮ ‬غضب،‮ ‬كيف لا ينفذ ما ارتأه،‮ ‬كيف لا تتحقق رغباته حتي وإن بدت مخالفة للشرع،‮ ‬للدين،‮ ‬أليست خيوط السلطة كلها في يده،‮ ‬هم بعزل القاضي في ذلك اليوم،‮ ‬في اليوم التالي كان الخميس ولم يظهر الهلال،‮ ‬فجاء العيد يوم الجمعة،‮ ‬وكان السلطان يخشي في اعماقه مجيء العيد يوم الجمعة،‮ ‬بسبب اعتقاد ساد في مصر خلال العصور الوسطي،‮ ‬وحتي الان بين الطبقات الشعبية،‮ ‬وهو انه اذا جاء العيد يوم الجمعة،‮ ‬واقيمت الصلاة فيه مرتين كان ذلك ايذانا بزوال الحاكم عن قريب،‮ ‬جاء العيد يوم الجمعة،‮ ‬ولم يخرج السلطان الي الصلاة،‮ ‬ولم يطلع الاتابكي تمراز الي القلعة،‮ ‬ولا بقية الامراء المقدمين،‮ ‬ولم يكن السلطان في موقعه،‮ ‬انما كان في قاعة البحرة يقضي العيد مع الاوباش واللصوص‮.‬يقول ابن اياس‮:‬‮»‬وكان الناصر في تلك الأيام في‮ ‬غاية الطيشان‮..«‬وينتهي عام ‮٢٠٩‬ه،‮ ‬ويعلق ابن اياس‮:‬‮»‬وقد خرجت هذه السنة علي ما شرح فيها من الفتن والافكار،‮ ‬والفساد،‮ ‬وخراب البلاد،‮ ‬ووقع فيها الغلاء وتشحطت الغلال،‮ ‬وقتل فيها من الامراء نحو من خمسين اميرا،‮ ‬ما بين مقدمين ألوف وطبلخانات وعشرات،‮ ‬وقد تقدم ذكر ذلك عند وقوع كل حادثة،‮ ‬من اوائل هذه السنة الي اواخرها،‮ ‬حسبما اوردناه من الوقائع،‮ ‬وقتل من الجند والعرب نحو من ألف انسان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‮..«.‬سلطان في الرابعة عشر،‮ ‬مراهق،‮ ‬شاذ،‮ ‬ما من شيء يحول دون رغباته الحسبة،‮ ‬ينزل بين الحين والحين الي تربة ابيه مع أصحابه اللصوص،‮ ‬وفي الليل يأتي بما لم يسمع بمثله،‮ ‬يقول ابن اياس‮:‬‮»‬وفيه نزل السلطان وبات في تربة ابيه،‮ ‬وحصل منه تلك الليلة عدة مساويء لا ينبغي شرحها‮«.‬وفي هذه الأيام يجيء الطاعون،‮ ‬ومات من الاطفال والمماليك والعبيد والجواري عدد كبير،‮ ‬واستمر المماليك في اذاهم للسلطان استخفوا به،‮ ‬وجاروا علي الناس بخطف القماش من الدكاكين والبضائع من الاسواق،‮ ‬وصاروا يستخفون بالسلطان والامراء،‮ ‬حتي قيل ان بعض المماليك كان راكبا علي فرس حرون،‮ ‬فصادف جنازة في وجهه،‮ ‬فجفل منها فرس ذلك المملوك،‮ ‬فسقط الي الارض،‮ ‬فخرج خلفه وهاش علي الحمالين الذين يحملون الميت،‮ ‬فهربوا بعد ان القوا الميت علي الارض،‮ ‬فلما هربوا راح يضرب الميت حتي شفي‮ ‬غليله‮!‬كل تفاصيل الحياة تصبح قبيحة،‮ ‬إذا كان الحاكم قبيحا،‮ ‬عرفنا ذلك جيدا في مصر،‮ ‬طوال تاريخها البعيد،‮ ‬والقريب،‮ ‬اما السلطان الغلام فلاه،‮ ‬لا يعبأ،‮ ‬غارق في طيشه،‮ ‬ينزل الي بولاق في مولد سيدي اسماعيل الامبابي،‮ ‬رحمة الله عليه،‮ ‬يعبر النيل في قارب،‮ ‬ومعه بعض أولاد عمه،‮ ‬أوقد حراقة نفط هائلة‮ »‬صواريخ‮« ‬وبات هذه الليلة في المركب،‮ ‬ثم تكرر منه ذلك في عدة ليالي اخري،‮ ‬ثم صار يركب بنفسه في كل ليلة بعد العشاء وامامه فانوسين واربعة مشاعل،‮ ‬وعدد من العبيد السود،‮ ‬واذ يري اي انسان في الطريق يناديه،‮ ‬ثم يسأله بصوت هاديء،‮ ‬ويتحاور معه،‮ ‬وفجأة يأمر بامساكه،‮ ‬ثم ينزل من فوق جواده ويقطع اذنيه وانفه بيده،‮ ‬أو يقتله،‮ ‬وهكذا قتل من الناس عدد لا يحصي في مدة بسيطة،‮ ‬وكان اذا مر بدكان ولم ير عليه قنديلا يسمر الدكان،‮ ‬وهو واقف بنفسه عليها حتي تسمر،‮ ‬كان السلطان اثناء مشيه في الاسواق ينظر إلي البيوت،‮ ‬فإذا لمح امرأة جميلة هجم عليها اقتحمه واغتصب المرأة أمام زوجها،‮ ‬وأخيها،‮ ‬في احدي الليالي دخل حارة الروم،‮ ‬هجم علي دار إبراهيم مستوفي ديوان الخواص ليلا وقبض علي ولده ابي البقا واراد قتله،‮ ‬فألقي والده نفسه عليه وافتداه بألف دينار،‮ ‬كان السلطان الطفل‮ -‬الذي أصبح مراهقا بشعا‮- ‬قد بلغه ان زوجة ابي البقا جميلة،‮ ‬فهجم عليه بسببها،‮ ‬فأخفوها منه،‮ ‬فجري منه ذلك،‮ ‬مرة اخري سمع عن امرأة جميلة،‮ ‬فاقتحم طاقة بيتها،‮ ‬واغتصبها،‮ ‬وضرب زوجها بالمقارع وسط بيته،‮ ‬وقطع دائرة فرجها بيده،‮ ‬ونظمه في خيط اعده لنظم فروج النساء،‮ ‬في يوم اخر امسك بجارية جميلة،‮ ‬اغلق عليها الباب،‮ ‬ربطها،‮ ‬وفي قسوة بشعة راح يسلخ جلدها،‮ ‬راحت أمه تتشفع لها،‮ ‬ولكنه لم يستجب لطرقاتها فوق الباب،‮ ‬واستمر حتي سلخ الجارية تماما،‮ ‬وحشا جلدها ثيابا،‮ ‬وخرج يظهر لمن بالباب قدرته علي السلخ،‮ ‬راح يصيح‮:‬‮»‬ان الجلادين لا يستطيعون ان يفعلوا مثلما فعلت‮«. ‬ونتوقف عن سرد فظاعاته مع النساء‮.‬ويمضي عام اخر من سنوات العذاب التي عرفتها مصر،‮ ‬ولندع شيخنا ابن اياس يعلق‮:‬‮»‬وقد خرجت هذه السنة علي الناس وهم في امر مريب،‮ ‬وقد وقع بها الغلاء والفناء،‮ ‬والمصادرات للناس،‮ ‬وجور السلطان في حق الناس،‮ ‬كما تقدم وأذي المماليك في حق الرعية،‮ ‬وقد صارت الناس في‮ ‬غاية الاضطراب وما كفي هذا كله،‮ ‬حتي فشي في الناس داء يقال له الحب الفرنجي‮ »‬الزهري‮« ‬اعاذنا الله منه،‮ ‬وقد اعيا الاطباء امره ولم يظهر هذا بمصر قط سوي في اوائل هذا القرن ومات به من الناس مالا يحصي،‮ ‬انتهي ذلك‮.‬ولكن ايام السلطان المجنون لم تنته بعد‮..‬في‮ ‬غمار الاستمتاع بالسلطة وسكرتها،‮ ‬تبدو الاوضاع مستقرة هادئة،‮ ‬ويخيل للحاكم انه سيقضي بقية عمره يحكم ويفسق،‮ ‬ولن يردعه رادع،‮ ‬وفي مصر كانت تمر فترات يبدو فيها الواقع آسنا،‮ ‬كريها،‮ ‬وما من حركة ايجابية تواجه البغي،‮ ‬وفجأة يتفجر الواقع عن مفاجأة لا تخطر علي بال،‮ ‬ربما يتحرك شخص واحد،‮ ‬يفتدي امته بنفسه،‮ ‬فيجهز علي الطاغية،‮ ‬وهكذا يتبدل الواقع إلي الافضل،‮ ‬وقد يهب الشعب كله الذي ظن القريب والبعيد انه مات،‮ ‬وانه لن يتحرك‮.‬جاءت سنة ‮٤٠٩‬ه والاحوال سيئة للغاية،‮ ‬والمماليك طالبين الشر مع السلطان،‮ ‬فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الاول،‮ ‬نزل السلطان من القلعة وتوجه إلي بر الجيزة،‮ ‬لم يصحبه احد من الامراء حتي ولا خاله،‮ ‬نصب هناك خيمة وارسل احضر ابوالخير لاعب خيال الظل المشهور،‮ ‬وجوق مغاني،‮ ‬واقام ثلاثة ايام وهو في ارغد عيش،‮ ‬واثناء عودته مر علي الطالبية،‮ ‬وكان الامير طومان باي الدوادار هناك،‮ ‬خرج الامير وعزم عليه فلم ينزل عنده،‮ ‬فخرج اليه بجفنة فيها لبن فاخر،‮ ‬فوقف السلطان وهو راكب علي فرسه،‮ ‬فقدموا له الجفنة واللبن والمعلقة فمد يده إلي الجفنة وأكل من اللبن،‮ ‬فبينما هو يأكل والامير طومان باي ماسك لجام فرسه،‮ ‬فلم يشعر إلا وقد خرج عليه كمين من الخيام التي هناك نحو من خمسين مملوكا،‮ ‬وهم لابسون آلة السلاح،‮ ‬فاحتاطوا به،‮ ‬وعاجلوه بالحسام قبل الكلام‮.‬وقتل اشر قتلة،‮ ‬مثلوا به كما مثل بالمئات‮.‬وهنا لنصغي إلي شيخنا ابن ياس‮:‬‮.. ‬وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية نحوا من سنتين وثلاثة اشهر وتسعة عشر يوما،‮ ‬وكانت ايامه كلها فتن وشرور،‮ ‬وحروب قائمة‮. ‬وما كان الاشرف قايتباي قصده ان يتسلطن ولده خوفا عليه من ذلك‮.‬ويسدل الستار علي فترة حالكة من تاريخ مصر الطويل‮.‬

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل