المحتوى الرئيسى

محمود الورداني يكتب عن‏:‏ المظاهرة التي قادها يوسف إدريس

03/09 09:21

لا أدري لماذا قفز إلي ذهني فورا‏,‏ خلال الأيام الأولي للثورة‏,‏ وأنا أطوف مع الملايين حول ميدان التحرير‏,‏ صورة يوسف ادريس‏.‏ لم أتذكر عشرات القصص الكثيرة والروايات والمسرحيات والمقالات فقط‏,‏ بل تذكرت أيضا واقعة جرت منذ ما يقرب من أربعين عاما حين قاد الرجل مظاهرة بالقرب من ميدان التحرير‏,‏ وتفصلها عن الميدان أمتار قليلة جدا‏..‏ سأحكي الحكاية من البداية‏..‏ فور علمي بنبأ اغتيال عملاء اسرائيل للشهيد غسان كنفاني في بيروت في أوائل السبعينيات‏,‏ توجهت إلي مقهي ريشي شاعرا بالغضب والعجز معا‏,‏ وباحثا عن أي صديق أفضفض معه أو نصرخ معا من عجزنا وقلة حيلتنا‏,‏ فلم يكن غسان كنفاني مجرد كاتب انما رمز للمقاومة الفلسطينية‏.‏ اتذكر جيدا ان الوقت كان في الظهيرة‏,‏ واننا جميعا ـ كان أغلبنا في العشرينيات والقليل منا في الثلاثينيات ـ وفوجئنا بيوسف ادريس بيننا‏!‏ لم ندر وقتها كيف نحتج‏.‏ كان الغضب يجتاحنا‏.‏ لقد اغتالت اسرائيل كاتبا وليس فدائيا يحمل السلاح‏.‏ كان غسان كاتبا فقط‏,‏ إلا أن اسرائيل أدركت انه أخطر علي وجودها من أي تنظيم مسلح‏,‏ وأن قصصه ورواياته عاشت وستعيش طويلا وتتأثر بها الأجيال الجديدة‏..‏ لذلك كان غسان رمزا للمقاومة ولرفض الاستسلام لتجريد الفلسطينيين من هويتهم وحقهم في وطنهم مهما كانت التضحيات والثمن‏..‏ وبقي السؤال‏:‏ كيف نحتج؟ نحن العشرات من الكتاب والفنانين الذين تجمعوا دون موعد‏,‏ بل لمجرد الغضب والاحتجاج والاحساس بالعجز‏..‏ ماذا نفعل؟ هل نكتب بيانا؟ وما فائدة البيانات؟ اسرائيل اغتالت كاتبا في عز الظهر وفي عاصمة عربية علي مرأي ومسمع من الجميع فما فائدة البيانات؟ المذهل أن يوسف ادريس وحده كان يملك الاجابة عن السؤال‏,‏ وكان صاحب الاقتراح الذي وافقنا عليه جميعا‏,‏ فهو الرد الوحيد والمناسب‏.‏ قال يوسف إنه سيقوم الآن من علي مقهي ريشي ويمشي في مظاهرة حتي لو كان وحده في شوارع وسط المدينة حاملا لافتة يعبر فيها عن احتجاجه‏.‏ هذا الاقتراح كان جنونا مطلقا في تلك الفترة‏..‏ كانت الأحكام العرفية مفروضة‏,‏ والمظاهرات والمسيرات والتجمعات ممنوعة سواء بتصريح أو من غير تصريح‏,‏ وكان نظام السادات مرعوبا من أي تحرك من أي نوع قبل حرب‏1973.‏ الأكثر جنونا أن صاحب الاقتراح هو يوسف ادريس الذي كان نجما ساطعا‏.‏ كان كاتبا كبيرا يحرر مفكرته الاسبوعية في الأهرام التي تتمتع بنسبة قراءة كاسحة‏,‏ وسكرتيرا عاما لنقابة الصحفيين ومحسوبا علي النظام‏,‏ وإن كان معتادا علي المشاغبة بين الحين والآخر‏.‏ كانت هذه المغامرة من يوسف ادريس بالغة الخطورة‏,‏ فهو يغامر بمستقبله وشهرته وسلطته المعنوية‏..‏ واصطحبتني الدكتورة رضوي عاشور‏,‏ بعد أن وافق يوسف ادريس علي اقتراحنا‏,‏ بأن نتوجه إلي أقرب تليفون ونطلب من نجد من أصدقائنا من الكتاب والفنانين‏,‏ ليلحقوا بنا فورا في مقهي ريشي لنبدأ مظاهرتنا احتجاجا علي اغتيال غسان كنفاني‏.‏ وخلال الوقت الذي توجهنا فيه ـ رضوي عاشور وأنا ـ لإجراء اتصالاتنا‏,‏ كان يوسف ادريس قد كلف عددا آخر من الكتاب بشراء أقلام فلوماستر وأوراق لنكتب لافتاتنا استعدادا للمظاهرة‏,‏ وتولي الشاعر الراحل نجيب سرور كتابة الشعارات بخطه القوي الواضح‏.‏ وبالفعل‏..‏ بعد ساعتين فقط‏,‏ تحركت أول مظاهرة علنية من مقهي ريشي‏,‏ وسارت في شوارع وسط البلد قرابة نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة حتي نقابة الصحفيين‏,‏ وهنا فتحت لنا أبواب النقابة التي لم نكن أعضاء فيها ولكن معنا سكرتير عام النقابة‏!‏ أثناء سيرنا في المظاهرة الصامتة حاملين لافتاتنا الغاضبة‏,‏ عن ذاكرة الناس‏,‏ ومنذ عدة سنوات لم يفكر احد في أي مظاهرة‏,‏ وكل المظاهرات السابقة كان منظموها هم الحكومة والاتحاد الاشتراكي وتخرج بغرض التأييد فقط‏,‏ أما أن تخرج مظاهرة تلقائية وشعبية بالفعل‏,‏ فهو أمر كان خارج أي تفكير‏..‏ أما الشرطة فقد فوجئت‏,‏ ولم يكن هناك سوي عدد محدود من الضباط والجنود تابعونا عن بعد‏,‏ وراحوا يبلغون بأجهزة اللاسلكي دون أن يستطيعوا التصرف‏,‏ واتذكر أن أحد الضباط ـ وكان برتبة العقيد فيما أظن ـ سارع باللحاق بيوسف ادريس بعد أن دخلنا النقابة‏,‏ وتبادل معه حديثا جانبيا لم نسمعه‏..‏ والحقيقة ان يوسف ادريس كاتب اشكالي بكل ما تعنيه من دلالات وظلال‏.‏ كان يحمل الشيء ونقيضه‏.‏ يتصرف بتلقائية ويتناقض مع مواقفه السابقة ولا يتوقف كثيرا أمام تناقضاته‏.‏ أحاول في السطور التالية أن اقترب وأفهم هذا الكاتب الذي طالما اعتبرته واعتبره الكثيرون ظاهرة‏..‏ بل اسطورة‏.‏ وبعد عام‏1927‏ في احدي قري الشرقية‏.‏ عاش طفولة بلا طفولة‏.‏ كان عليه أن يقطع عدة كيلو مترات يوميا علي قدميه للذهاب إلي المدرسة‏,‏ ثم تعين عليه أن يقيم وحده في حجرة فقيرة أثناء دراسته‏.‏ عاش حياة بالغة الشظف‏,‏ واستطاع أن يصل إلي المرحلة الثانوية بأعجوبة بسبب اصراره وارادته الحديدية‏,‏ واصرار أسرته أيضا‏,‏ وتحملها لأعباء لم يكن ممكنا تحملها إلا لأن يوسف كان متفوقا ويحقق دائما أعلي الدرجات‏.‏ وفي منتصف الاربعينيات التحق بكلية الطب بسبب تفوقه الكاسح‏.‏ حتي دخوله كلية الطب ـ كما صرح في عدد من المقابلات الصحفية ـ لم يكن قد فكر في الكتابة‏,‏ بل ولم يكن مهتما بالقراءة كل ما في الأمر أن أباه كان قد سحره بسبب طريقته في حكي مايصادفه من وقائع وتفاصيل‏!‏ بل وصرح أيضا بأن قراءاته آنذاك لم تتجاوز بعض الروايات البوليسية‏(‏ بالمناسبة دافع يوسف كثيرا وبضراوة عن الحبكة البوليسية واعتبرها ضرورة للقصة القصيرة تحديدا‏).‏ علي أي حال‏,‏يوسف ادريس علي موعد مع القدر كمايقولون‏,‏ وكانت مصر بكاملها مشتعلة بالغضب وعلي وشك انفجارة شعبية كاسحة‏.‏ فأحزاب الاقلية والقصر‏,‏ بل وحتي حزب الأغلبية عاجزون عن الحصول علي أدني تأييد شعبي‏,‏ والاحتلال الانجليزي يرتع ويعيث فسادا في البلاد‏,‏ والكل يصيح مطالبا بالجلاء‏,‏ بل إن هتافا مثل‏:‏ مصر والسودان لنا وانجلترا إن أمكنا تردد في الجامعة أثناء المظاهرات التي لم تنقطع خلال العام الدراسي‏1945‏ ـ‏1946‏ وهو هتاف سريالي تماما كمايري القاريء‏!‏ تلك هي الظروف التي وجد طالب الطب الصغير ذو العينين الملونتين والقوام الفارع والملاح الوسيمة يوسف ادريس نفسه في خضمها‏.‏ والمؤكد أنه ارتبط بأحد التنظيمات الماركسية آنذاك‏,‏ وردد كثير من زملائه في كلية الطب أنه كان يقود المظاهرات ويقف خطيبا مفوها في المؤتمرات‏,‏ وعرف كأحد الذين يجيدون بمهارة فنون الاحتجاج والرفض الجماهيري‏.‏ وهكذا دخل صاحبنا عالما مختلفا‏,‏ وأصبح مناضلا جماهيريا مشهورا ومحبوبا من زملائه‏.‏ تصاعدت الأحداث ضد الاحتلال‏,‏ وتشكلت سريعا لجان وطنية داخل كل كلية لتنظيم أشكال الاحتجاج الجماهيري‏,‏ ومن هذه اللجان تشكلت لجنة وطنية موحدة لقيادة الجامعات المصرية‏,‏ وعلي الجانب الآخر شكل العمال لجانهم الوطنية للغرض نفسه‏,‏ ومن هذه اللجان انبعثت للمرة الأولي في التاريخ الحديث لجنة الكلية والعمال التي تصدت لقيادة الغاضبين المطالبين بالجلاء‏..‏ في ظل هذا الجو تفتح طالب الطب وارتبط بالسياسة من أوسع أبوابها لذلك حفرت تلك الفترة في روحه وتركت بصمات لم يطوها الزمن حتي آخر أيام حياته‏.‏ هو اذن إبن الحركة الوطنية في لحظات مجدها وشموخها‏..‏وحتي ذلك الوقت كان منخرطا في العمل السياسي ولم يفكر في الكتابة‏.‏ وعندما وجهت له مجلة فصول في عددها الرابع عام‏1982‏ سؤالا حول هذه الفترة أجاب‏:‏ لقد بدأت مزودا بهذه الأسلحة أسلحة الانتماء الشعبي والقضية الشعبية فأنا كاتب مؤمن بقضية الشعب نشأت من قلب الحركة الوطنية متسمعا نبضها وكنت من قيادات كلية الطب‏.‏ ويضيف‏:‏ وكانت أول قصة كتبتها هي أنشودة الغرباء‏..‏ وبالمصاصدفة كان يسكن في شقة مشتركة مع زملائه في كلية الطب ممن ربط بينهم عشق الأدب والكتابة مثل محمد يسري أحمد وصلاح حافظ وحسن فؤاد‏.‏ بدأ صاحبنا كبيرا وقدمه للحياة الأدبية الكاتب المعروف آنذاك والمشرف علي القسم الادبي بجريدة المصري الواسعة الانتشار عبد الرحمن الخميسي ونشر له أولي قصصه بمقدمة حارة‏.‏ وبعد أن نشر له مجموعته الاولي قدم له مجموعته الثانية طه حسين بنفسه قائلا‏:‏ كان كل شيء في حياة هذا الشاب جديرا بأن يشغله عن هذا الجهد الأدبي وأمثاله بأشياء أخري ليست أقل من الأدب نفعا للناس وامتاعا للقلب والعقل‏.‏ فهو قد تهيأ في أول شبابه لدراسة الطب ثم جد في درسه وتحصيله حتي تخرج وأصبح طبيبا ولكن للأدب استئثارا ببعض النفوس وسلطانا علي بعض القلوب لايستطيع مقاومته والامتناع عليه إلا الأقلون‏.‏ من جانب آخر اشتبك يوسف ادريس مع ثورة‏23‏ يوليو منذ لحظاتها الاولي وارتبط بها وتأثر بها وتأثرت الثورة به وهو ماسوف أحاول أن أفهمه في سطور أخري‏,‏ إذا امتد الأجل‏!‏  

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل