حالة حوارنگــــــتة .. ونگـــــــتة
ما وصل إلينا عبر أجهزة التحقيق والرقابة والمحاسبة من وقائع وأرقام حول قضايا الفساد، والاثراء غير المشروع، واستغلال النفوذ، أخبرنا بأننا كنا نعيش في براثن شبكة من اللصوص والمنحرفين، وشذاذ الآفاق لم تأخذهم بنا شفقة أو رحمة.فإذا قبلنا- فرضاً جدلاً- أن يكون أصحاب النفوذ والسلطان لصوصا، فما سقف ذلك القبول والسماح الذي يُفترض عدم تجاوزه أو اختراقه؟!مليون.. عشرة ملايين.. مائة مليون.. مليار.. كم - بالضبط- يكفي أولئك الناس كيما يشعرون بالارتواء أو الامتلاء؟!وكم من المال يحتاج لص طبيعي حتي يحس أنه بلغ غاياته ويقرر اعتزال السرقة ثم التقاعد؟!لماذا سرق أولئك الناس بما يجاوز أي حد منطقي لاحتياجهم طوال حياتهم، أو متطلبات الأجيال العشرة القادمة من أحفادهم؟السبب في تقديري- ومن خلال اقترابات ومداخل نفسية ودرامية- هو أنهم يكرهوننا حتي الموت، ويستكثرون علينا مليماً أحمر من دخل هذا البلد الذي تكسبناه بعرق وشقاء، لا بل بدم ودموع.هم يسرقوننا حتي لا يبقي لنا شئ.. وإلا فليخبرني أحدكم ما معني أن يواصل أحد اللصوص لصوصيته متجاوزا رقم مليار؟!كنا نشعر بأن هناك فسادا، وكنا نقرأ في تقارير الشفافية الدولية بضع معلومات أو تحديدا لمراكز متأخرة نحتلها بين قوائم وتصنيفات الدول في هذا السياق، أو نطالع في المطبوعات الأجنبية قصصا عن ذلك كله، ولكننا إما افتقدنا الدليل علي أعمال اغتصاب المال العام التي تمت بسواتر محكمة جدا، أو تصورنا أن التقارير الأجنبية هي جزء من حملة أمريكية وأوروبية منظمة ذات أسباب سياسية بحتة، أولم نتخيل أن أعمال الفساد سائرة دائرة عند قمة النظام وليس سفحه فقط.وعلي أية حال فإن أرقام تقارير المنظمات الدولية، أو معلومات المطبوعات الأجنبية عن الفساد في مصر كانت شديدة التواضع قياسا إلي ما يتناهي إلي أسماعنا أو يتراءي أمام أنظارنا في اللحظة الراهنة.لا.. بل وأجزم أن ثوار ٥٢ يناير أنفسهم لم يتصوروا أن الفساد الذي ثاروا ضده، وانتفضوا لإطاحته بلغ تلك الأحجام المهولة.ولكن شيئا ما في الضمير الشعبي همس بحجم الفساد ووشي به، في شكل نكتة قاتمة، أو فكاهة سوداء، أو سخرية مُرة أورثتنا - جميعا- ضحك كالبكا، غير أننا لم نتوقف أمام قهقهاتنا الدامعة بالانتباه الواجب، لأن كلا منا ودود لنفسه في سريرته بأن الأمر لا يعدو - في نهاية النهار- كونه نكتة.الضحك وانتاج الفكاهة هو سمة أصيل للشخصية الوطنية المصرية National- character وهو إحدي الوسائط التقليدية الشائعة جدا التي يُعبر بها المصري عن مواقفه وآرائه إزاء ما يعجز عن مواجهته، يعني المصري إزاء القهر -تاريخيا وحتي يتمكن من الثورة- يلهو بقيوده بأغلاله، بأصفاده، ويلتجئ إلي السخرية من جلاديه. وقد فعل المصريون ذلك- بالضبط- إزاء عائلة الرئيس السابق لمرتين كاشفتين جدا عند بداية السنوات العشرة الماضية، »وربما هناك مئات النكات الأخري ولكنها تبقي مثيرة للضحك من دون دلالة أو خلو من الرسائل الضمنية المثيرة للتأمل الدافعة للتحليل«.وقبيل التعرض للنكتتين اللتين عليهما الكلام، ينبغي الإشارة إلي أنني لا أحب في مقالاتي السياسية أن أدهس كرامة أي فرد مهما كان تقييمي لفعلة اقترفها أو ذنب ارتكبه، كما اتجنب التورط في مستنقع الشخصانية وبالذات في تناول حدث ٥٢ يناير أو ما تلاه، لأنني اليوم أتكلم عن أزمة كبيرة جدا عاشها وطن، وأفضت به إلي ثورة أطاحت وضعا، وتحاول- جاهدة- أن تبني وضعا بديلا جديدا مكانه.ومن ثم فإن ما سوف أعرض له - الآن- لن يكون بغرض الإساءة لشخوص عائلة الرئيس السابق- فهم جمعيا بين يدي الشعب والعدالة، وهم أبرياء حتي تثبت إدانتهم.. رغم أن التقارير الصحفية وبالذات في جريدة »الشروق« صباح الأربعاء الماضي تقول بأن الأدلة لدي النيابة العمومية ضدهم يستحيل التملص منها ولكنني بصدد محاولة رصد تحليلية لظاهرة »اجتماعية - مزاجية- ثقافية« أدرس فيها حالة نكتتين من إبداع الشعب المصري، أراهما من أهم تجليات ما قبل ٥٢ يناير التي ينبغي التوقف أمامها.أما الأمر الثاني الذي ألقيه في سكتكم- قبل الدخول إلي ساحة مناقشة النكتتين - فهو أنني بصدد أمر جاد، لا استهدف فيه مجرد المزاح أو المماحكة توطئة للضحك ملء الأشداق، أو دق راحة يدي علي راحة كف من أحدثه، مصادقة علي حلاوة النكتة وطلاوة المفارقة.أولي النكتتين تشير إلي أن أحد معاوني الرئيس السابق أراد أن يشيع البهجة في نفس قائده، فاستعرض معه ممتلكات واحد من نجليه قائلا: »اليخت ده بتاع علاء بيه.. والقصر ده بتاع علاء بيه.. والطيارة الخاصة دي بتاعة علاء بيه.. وطقم الألماظ النادر ده بتاع علاء بيه برضه«، فابتسم الرئيس السابق هازاً رأسه في استحسان قائلاً لنفسه: »يا ابن الإيه يا علاء كل ده من مصروفك«!!أما النكتة الثانية فتحكي أن الرئيس السابق اشتري شقة لنجله الصغير في مصر الجديدة، ولكن جمال رأي أنها ضيقة، فاشتري أبوه له شقة أخري في مدينة ٦ أكتوبر، وإذ بجمال يراها ضيقة كذلك، وهنا قال الرئيس: »معلهش بقي ما هو ممكن تفتحهم علي بعض«!!والفكرة- طبعا- مفهومة وهي أن الرئيس يعتبر البلد كله من مصر الجديدة إلي ٦ أكتوبر شقة لابنه يعيش فيها ويتهني.النكتتان غاية في الأهمية علي مستوي الإبداع الشعبي، لأنهما انطلقتا - واحدة تلو الأخري- منذ عشر سنوات تقريبا في توقيت يعتقد الذهن العام أنه بداية انهيار سلطة الرئيس أمام زوجته وابنائه وهو ما أفضي به إلي الموافقة علي ما لا ينبغي أن يوافق عليه، كما قاد نظامه إلي السقوط في نهاية المطاف.وأهم عناصر النص الفكاهي في كليهما هي:أولاً: إن الحس الفكاهي الشعبي أشار مرتين إلي خداع الناس عبر محاولة ستر الفساد بذرائع وحيثيات غير معقولة بالمرة »الإدخار من مصروف نجل الرئيس لشراء كل تلك الترسانة من المقتنيات باهظة الثمن والقيمة« أو »فتح شقتين للتوسعة كما تفعل بعض الأسر المتوسطة أو الميسورة.. ولكن المسافة بين مصر الجديدة و٦ أكتوبر تعطي في ذات الوقت إشارة لا تخطئها الأذن عن الاستيلاء علي بلد بأكمله!ثانيا: النكتتان تبدوان ذهابا إلي نقطة الحد الأقصي في تصور حجم استغلال النفوذ أو الإثراء غير المشروع وهو »في توقيت إطلاقهما الأصلي« يبدو مبالغة تسعي إلي الإضحاك عبر المفارقة الكبيرة بين الحقيقة والخيال.ولكن حين نعيد قراءة النكتتين الآن »وفي ضوء ما تكشف أو يتوالي إعلانه ونشره في البلد عن وقائع تمس السلوك المالي لأصحاب النفوذ« نجد الخيال خجولا من تواضعه وبؤسه!بعبارة أخري أضحكت النكتتان من سمعهما في زمن إطلاقهما، ولكنهما أبكيتا من تأملهما في هذه الأيام!!ثالثاً: الملاحظ أن الجمهور يستعيد النكتتين الآن، ولا يقوم - بكثافة- بانتاج نكات أخري عن الفساد، وإنما جاءت فكاهاته عن الاستبداد أو القهر بدرجة أكثر تدفقاً بكثير، إذ إن الذهن العام يبدو - مازال- تحت وطأة الصدمة أو الدهشة، ولم يستعد توازنه أمام ضخامة أرقام عمليات النزح أو السلب التي تعرض لها، ومن ثم لم ينتج نكاتاً مهمة عن الفساد حتي لحظة كتابة هذه السطور، واضطر إلي استرجاع النكتتين واستعمالهما لحين ميسرة.رابعاً: الكثيرون من علماء النفس قاموا بتعريف الضحك علي أنه استجابة للألم وليس للسرور، ومن ثم فإن انتاج النكتتين وقت ألم القهر الاجتماعي، وتكريس الفجوة الاقتصادية بين الناس، وازدهار مؤسسة الفساد يظل مفهوما، أما عدم انتاج نكات عن الفساد بذات الأهمية بعد الثورة فجاء من أن المزاج العام- بصرف النظر عن صدمته المروعة- هو في حال سرور وانبساط، ومن ثم يقل إنتاج النكات بعد الثورة عن مثيله قبلها أواثناءها.خامسا: في الدراسات النفسية- كذلك- الضحك لا ينفصل عن الضاحك، والهزل لا ينفصل عن الهازل، يعني انتاج مثل هاتين النكتتين في توقيت إطلاقهما كان تعبيرا عن احتياج اجتماعي ومزاجي كبير.أما - الآن- فإن عملية تقديم الفاسدين أو المفسدين للمحاكمة تسحب من طاقة الضاحك المصري فلا يشعر بالعجز أمام الفساد الذي ربما يدفعه إلي الهزل والضحك من جديد ومما يعجز عن مواجهته، أو إلي الغضب والثورة ومن جديد كذلك ضد ما اكتشف أنه غير عاجز عن التصدي له.ومن ثم فإن بعض ما يطرحه مثقفون علي الذهن العام- الآن- من ضرورة إبطاء سرعة التعامل مع قضايا الفساد، أو الإيحاء بأن هناك عوارا في العملية القانونية لمواجهة الفساد، أو الحديث المتواصل عن أن هناك رجال أعمال شرفاء وليسوا كلهم فاسدين.. كل هذا يؤدي- في تقديري- مرة أخري إلي احتقان الناس، وشعورهم بالعجز، ومن ثم سيؤدي إلي معاودة إطلاقهم النكات وهي نقطة إشارية ينبغي أن تكون دالة علي استعادة درجة الغليان الشعوري التي استبقت الثورة.الحديث عن عدم دقة العملية القانونية في تقديم المفسدين للعدالة هو أمر في غاية الخطورة لأنه يسلب المصريين إيمانهم بمؤسسة النيابة العامة التي يعتبرونها بعد القوات المسلحة وشباب يناير أنظف ظواهر المرحلة ثم إننا نرجو الاصدقاء الذين ينتقدون سرعة إجراءات تقديم الفاسدين للمحاكمة أن يدركوا وجود قضايا كانت جاهزة ضد الكثيرين منهم »ومعطلة سياسيا« وهي التي تم تقديمهم بها للنيابة لحين التحقيق في مواد البلاغات المنهمرة عنهم.ثم ان الحديث عن أن هناك رجال أعمال شرفاء هو أمر لا يختلف عليه أحد، ولكن حين يطرح في سياق تهدئة الناس في مواجهة رجال أعمال غير شرفاء، أو نظام اقتصادي/اجتماعي ثاروا لتعديله جوهريا، فإن ذلك - أيضا- يضغط علي أعصاب الشعب بما لا يمكن احتماله- الآن- بالذات.وكذلك فإن الربط غير المفهوم بين عودة الانتاج إلي وتيرته وتهدئة المواجهة مع الفساد هو أمر لا يستقيم، لأن الهياج العام هو وضع أدي الفساد إليه بقول واحد، والمواجهة مع الفساد أدت إلي الهدوء، واستمرارها سيؤدي إلي المزيد من الهدوء الذي يجب أن تصاحبه توعية بعودة ايقاع الحياة الطبيعية، وعودة الانتاج، إنما لا يجوز الحديث عن أن رجال الأعمال خائفون من الحرب علي الفساد بما أدي إلي توقف المصانع، أي أن توقف الحرب علي الفساد سيؤدي إلي تشغيل المصانع وفقا لذلك القياس!!كل هذه أفكار أو أقوال تتجاهل آليات الغضب والثورة عند الناس، واستمرار طرح تلك الأفكار سيؤدي - بالقطع- إلي عودة تيار التنكيت والتبكيت مرافقا الاحساس بالعجز والألم، ومؤديا إلي الغضب والثورة.هذه قراءة مبسطة جدا للمزاج المصري الذي ينبغي وضعه في الاعتبار قبل التعدي علي أسلوب عمل النيابة العامة، أو التحليل الخاطئ لتوقف الانتاج، أو تحديد طرق استعادة إيقاع العمل ومواجهة الحالة الاقتصادية المحرجة التي تلوح بوادرها علي نحو مقلق.ظاهرة الضحك وعلاقتها بالمزاج العام في مصر تفسر كل شيء.. كل شيء!
Comments