المحتوى الرئيسى

لا تقتلوه ولا تدعوا لقتله

03/03 09:49

بقلم: جميل مطر 3 مارس 2011 09:15:55 ص بتوقيت القاهرة تعليقات: 0 var addthis_pub = "mohamedtanna"; لا تقتلوه ولا تدعوا لقتله  قالوا عن ليبيا إنها صندوق رمال تمر عليه فى طريق ذهابها وعودتها جيوش الإمبراطوريات، تلقى فيه ما تحمله من ثقافات وأفكار وإنجازات فتبتلعها الرمال ولا يبقى منها على السطح شيئا يذكر بمرور هذه الجيوش أو تلك الحضارات. وإن غصت فى الرمال حتى القاع فلن تجد أثرا يؤكد أن غرباء متحضرين مروا من هناك. لم أقتنع يوما بهذا الرأى فى مسيرة التاريخ الليبى، وكتبت وحاضرت ضد هذا الرأى وضد مناصريه، وعلى رأسهم العقيد معمر القذافى.أفهم أن يكتب مؤرخون ودارسو حضارات رأيا أو آخر يقابل بالانتقاد الشديد، إما لأن الرأى يعكس موقفا عنصريا أو يعبر عن قناعات أيديولوجية أو دينية معينة. انتقدنا الكثير من كتابات المستشرقين ونشر إدوارد سعيد تشريحا أكاديميا راقيا لكتاباتهم وتوجهاتهم ونواياهم وعشنا عقودا غير قليلة ندفع ثمن ما استوعبه قادة دول غربية، بخاصة بريطانيا والولايات المتحدة، من الأفكار الشريرة التى كان يبثها كبير المستشرقين المعاصرين برنارد لويس، حتى إن دولا أعادت صياغة أو تعميق سياساتها الخارجية بناء على أفكاره العنصرية والمعادية للمسلمين بصفة عامة وشعوب الشرق الأوسط بصفة خاصة. جاءت فترة كان إدوارد لويس وحواريوه يقودون قوافل من الأكاديميين والبيروقراطيين الأمريكيين، حتى أشعلوها فى العالم نارا بدأت بالتحريض ضد الدول الإسلامية والثقافة الإسلامية، وانتهت بحرب عالمية ضد الإرهاب بعد أن مررنا، معا نحن وهم، بصدام الحضارات.أفهم أن يفعل هؤلاء المؤرخون والمستشرقون ما يسىء إلى شعوبنا ويهين إنسانيتنا، ولكن ما لم أفهمه على الإطلاق، ولن أفهمه، هو أن يتعامل قادتنا وحكامنا العرب مع شعوبهم على أساس هذه النظرة اللئيمة أو على أساس ما هو أسوأ. وأقول أسوأ، لأنها نظرة من ائتمنتهم الشعوب على حياتها وأمنها. بعض هؤلاء دافعنا عنهم ضد خصومهم حين هوجموا، ووجدنا لهم الأعذار حين انهزموا، وأشفقنا عليهم حين مرضوا، ومع ذلك استمروا يتعالون على شعوبهم وإن عبرت عن رأيها أهانوها وإن عصيت اعتقلوها وإن تمردت أبادوها.لا أبالغ فى إطلاق صفة الكره على شعورهم تجاه شعوبهم رغم ما كشفت عنه انتفاضات الشعوب فى الأسابيع الأخيرة من حقيقة المشاعر، التى يكنها الرؤساء والحكام الذين انتفضت عليهم شعوبهم. كشفت عن مدى احتقارهم للشعوب وكرههم لها.بالنسبة لى لم تكن الأسابيع الأخيرة وحدها هى الكاشفة عن حقيقة شعور حكامنا تجاه شعوبهم، بل كانت سنوات عديدة من الممارسة العملية لعلاقات مع شعوب عشت بينها وراقبت عن كثب كيف يعاملها حكامهم، ومنها الشعب المصرى وحكامه. رأيت حكاما يتجاهلون الشكاوى لأنها صادرة من شعب «لا يفهم»، ويعتبرون فضول الشعب أو حاجته ليعرف تطاولا من شعب «لا يقدر»، وحين يأتى علماؤنا من الخارج ومعهم نصيحة أو تجربة ويتلقاها الشعب بالفرحة والأمل ويفرح بها وببتهج ويستبشر خيرا يتهمونه بالسذاجة وقصر النظر لأنه لم ينتبه إلى أن العلماء العائدين سعوا لمنصب كبير أو لشهرة تتجاوز شهرة الرئيس.فى جعبتنا حكايات لا آخر لها، حكايات عن حكام فى تونس واليمن والعراق وسوريا والجزائر والسودان وليبيا ومصر، تفننوا فى إهانة شعوبهم والاستهزاء بها. كان فى العراق رجل امتلأ يقينا بأن شعبه لا يؤمن جانبه إلا إذا ضرب بالعصا وأهين وذلت أعناقه. كان يستند إلى التاريخ، وما أطوله، ليثبت أن العراق لم يعرف استقرارا إلا عندما تولى أمره حاكم لا يعرف الشفقة، ولا يعرف غير الدم المسفوك أنهارا سبيلا إلى طاعة الشعب. رأيته يستقبلنا بابتسامة عريضة لا تتناسب مع شرارات الشر التى تطلقها عينان قاسيتان، ولكنها ابتسامة على كل حال. هذه الابتسامة التى كانت تختفى فى كل مرة توجه بها بالحديث إلى مسئولين عراقيين موجودين معنا بالغرفة. الزعيم لا يبتسم فى وجود مواطنين خشية أن يشعر المواطن حتى وإن كان وزيرا أو محافظا مسئولا عن ملايين البشر، إنه آمن على نفسه وبيته وممتلكاته.وفى مصر، إن نسيت الكثير وأرجو ان أنساه، لن أنسى فرحة عدد كبير من الإعلاميين والمثقفين يوم إبلاغهم الدعوة للقاء سنوى كبير يحضره السيد الرئيس. جرت العادة أن جانبا من اللقاء كان يذاع على الهواء مباشرة أو مسجلا، جرت العادة أيضا أن يكشف هذا الجانب المذاع أو المسجل عن أجزاء من حوارات يتعمد فيها رئيس الدولة الاستهزاء بأفكار مثقف أو آخر، ويتعمد التعالى عليهم جميعا بأنه وحده، الذى يعرف الحقائق كافة، وهم لا يعرفون. وكان يأمر بدعوة رجال أفاضل ويستعد لهم بكمائن للإساءة إلى أشخاصهم وما يمثلون.<<<<ومن ليبيا جاء لزيارتنا فى جريدة الأهرام العقيد القذافى ولم يكن قد تجاوز بعد الثلاثين من عمره بكثير. وفى اجتماع ضم عشرين أو ما يزيد، بعضهم من قيادات مصر الثقافية باعتبارهم من أركان الأهرام التى تفخر بها المؤسسة، عرض العقيد رؤية لمستقبل يعود فيه العرب إلى العصر الذهبى للإسلام. وحين سأله أحد الحاضرين عن العصر الإسلامى، الذى يعتبره ذهبيا، بمعنى أن السلطة فيه كانت تتداول أو تتوارث سلميا والإنسان فيه يعيش فى ظل قانون يحترم حقوقه وحياته، راح العقيد يختار عصرا بعد آخر فينتقده حاضر أو آخر حتى انتهى إلى أنه ربما كان عصر الخلفاء الراشدين. هنا انبرت مثقفة كبيرة للإعراب نيابة عن كل الحاضرين عن السعادة لأن «العلى الكريم أرسل لنا أخيرا خليفة سينهض بالأمة ويعيد إليها امجاد العصور الذهبية». ويبدو أن هذا التصريح شديد النفاق كان سببا فى أن يضع السيد العقيد الأهرام بندا دائما فى جدول زياراته لمصر.يحكى زميل يحتل مكانة محترمة فى الصحافة اللبنانية إن الدعوة وجهت له لمقابلة العقيد الذى تصادف وجوده فى بلد عربى ثالث فى ذلك الوقت. وعندما ذاع الخبر اتصلت بالزميل اللبنانى شخصية ليبية كبيرة مقيمة فى البلد نفسها يطلب منه العمل على ترطيب الأجواء مع العقيد القذافى تمهيدا للقاء بينهما. استجاب الزميل وخلال اللقاء طلب من العقيد الالتقاء بهذا الشخص ليصحح له معلومات وصلته عنه، ولكن العقيد لم يدعه يكمل الطلب، فبمجرد أن سمع عن شخص يريد مقابلته سأل هل هو ليبى؟، وعندما جاءته الإجابة بنعم قال.. « ليبى؟ يعنى بهيم» واستطرد فى لهجة غاضبة وباشمئزاز واضح: «أنا لا أريد أن أقابل بهائم». تذكرت وأنا أسمع هذه القصة أحاديث عديدة جرت فى القاهرة مع العقيد، وفى كثير منها كان يوجه نقدا شديدا إلى الشعب الليبى، وأذكر جيدا أنه قال ذات مرة أتمنى لو أمكننى استبدال شعب ليبيا بشعب آخر. وفى مرة أخرى، وكان قد مضى عليه فى الحكم خمسة عشر عاما أو أكثر، قال، إن الشعب الليبى غير قادر على الارتقاء إلى مستوى تفكيرى»، قدرى أن أكون زعيما لشعب لا يفهم».تذكرت هذه المشاهد والحوارات وكثيرا غيرها وأنا أستمع إلى العقيد يصرخ بأعلى صوته، «أنا المجد.. مجد ليبيا والعرب وأفريقيا وأمريكا اللاتينية». ها هو بعد أربعين عاما فى الحكم والزعامة يؤكد مجددا قناعته الأساسية، وهى فى الوقت نفسه قناعة أمثاله من الحكام العرب. هو وهم أرقى من شعوبهم التى لا تستحقهم، شعوب ناكرة للجميل، شعوب لم تفهمهم، ولابد من سحقها وذبحها إن تمردت أو رفعت صوتها.<<<<ومع ذلك، ورغم هذه الطباع الاستبدادية، والوحشية أحيانا، لا أستطيع ان أقبل من شيخ وقور له احترامه بين مريديه وأتباعه، دعوته الناس لقتل القذافى. إن توجيه دعوة من هذا القبيل والقبول بها تحت ضغط المأساة الواقعة فى ليبيا تجعلنا فى نظر الإنسانية والتاريخ نبدو فى صورة أقل تحضرا وإنسانية من صور الملايين المسالمة المتحضرة، التى خرجت تطالب بإقصاء حكامها ولم تطلب، ولا يجب تشجيعها على أن تطلب، سفك دمائهم.إن الثورة العربية الكبرى، التى نعيش أعظم أيامها، تاج على رءوسنا جميعا. دعونا نحافظ عليها بيضاء ونقية وطاهرة، لا يلوثها تعصب أو اندفاع أو تصفية حساب.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل