المحتوى الرئيسى

الدستور!بقلم: جواد البشيتي

03/02 13:51

الدستور! جواد البشيتي الدستور ما الدستور وما أدراك ما الدستور.. وإنَّ أوَّل ما ينبغي لنا قوله في أمر الدساتير هو ضرورة أنْ نتحرَّر، عقلاً وفكراً وشعوراً وممارَسةً، من "الأوهام الدستورية"، وأهمُّها وَهْم أنَّ الدستور نصٌّ خالد، مقدَّس، وكأنَّه الكِتَاب أُنْزِل علينا، منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ. وليس من دستور مستقل، بنصِّه وروحه وتفسيره وتأويله والأفعال التي يُتَرْجَم بها، عن العلاقة، وعن جوهر وخواص العلاقة، بين "الحاكم" والمحكوم"؛ فإنَّ الدستور هو دائماً وأبداً، ولو "أقرَّه" الشعب، "الإرادة العليا للحاكم، مُعبَّر عنها بلغة قانونية"؛ والحاكم لا يريد إلاَّ كل ما تقتضيه مصلحته في البقاء حاكماً، وفي توطيد حكمه. والحاكم هو وحده الذي يحقُّ له خَرْق وانتهاك دستوره، فتَناقُض مصالحه (الواقعية) قد يجعله في تَناقُض مع بعضٍ من دستوره، فَتَغْلُب مصلحته الجديدة مبدأ "التزام الدستور"، نصَّاً وروحاً؛ ولقد رأيْنا الدكتاتور حسني مبارك، المُسْتَخْذي لمصلحته في تأبيد حكمه، وفي توريثه لنجله جمال، يَمْسَخ الدستور، ويعيث فيه، بما يوافِق ويَخْدُم تلك المصلحة. وويلٌ للدستور، وعبيده وعَبَدَتِه، في "جمهوريات مبارك العربية"، وما أكثرها، إذا ما ثَبُت وتأكَّد للسيِّد الرئيس أنَّ دستوره، على نفعه الجزيل له، لا يفي بالغرض، ولا يَخْدُم مصلحته على خير وجه؛ فإنَّه، عندئذٍ، يحيل الدستور على التقاعد، لِيَشْرَع ويَسِن لحكمه قانوناً جديداً، وكأنَّ البلاد قد حلَّ بها (أو يوشك أن يحل بها) من الكوارث والمصائب والنوازل ما يشدِّد الحاجة إلى نبذ الدستور في إدارة شؤونها وأمورها، وإلى الاستمرار في هذه الإدارة (المنافية للدستور، والمضادة له) زمناً طويلاً (عشرات السنين). وكثيراً ما سَمِعْنا محكومين عرباً من ذوي النيِّات الحسنة، ومِمَّن ابتلاهم الحاكم وكهنته بـ "البلاهة الدستورية"، يقولون في ألم وحسرة إنَّ الدستور (بحدِّ ذاته) جيِّد وحَسَن لو عُمِل به، أي لو التزمه الحاكم (نصَّاً وروحاً) وأتاح للمحكوم التمتُّع بالحقوق التي كفلها له الدستور؛ أمَّا التجربة، أي "المغامَرَة"، فكثيراً ما جاءت بما ينبغي له أنْ يُقْنِع "ضحيتها" بأنَّ الطريق إلى جهنَّم مبلَّطة بالنيَّات الحسنة؛ فإنَّ الدساتير العربية لا تقوم لها قائمة إذا لم تسلبك بيسارها ما أعطتك إيَّاه بيمينها؛ وهذا ما نراه دائماً في العبارات الدستورية "القَيْدِيَّة"، فالمواطِن له "الحق في..؛ على أنْ..، أو شَرْط أنْ..، أو بما لا يتعارَض مع..". الحاكم العربي ما عاد (والحمد لله) يستمد شرعيته في الحكم من السماء، وإنْ ظلَّ بعض الحُكَّام مُفَضِّلاً "شرعية أرضية يخالطها نزر من الشرعية السماوية". إنَّه يستمدها الآن من "الدستور"؛ أمَّا الدستور نفسه فيستمد شرعيته من "الشعب"؛ لكن هل من "شرعية شعبية" إذا ما كان الشعب نفسه "غير حُرٍّ"؟! إنَّ "المجتمع الحُرُّ" هو وحده الذي فيه، وبه، يوجد "الشعب الحر"، فيحظى "الدستور"، من ثمَّ، بـ "شرعية شعبية"، ويحظى "الحاكم"، من ثمَّ، بـ "شرعية دستورية". وهذا إنَّما يعني، وعلى ما أوضحت وأكَّدت الثورتان التونسية والمصرية، وسائر الثورات الشعبية الديمقراطية العربية، أنَّ غياب "المجتمع الحر" يُغيِّب، حتماً، "شرعية" الدستور والحاكم معاً. ولن ينال من قوَّة هذه الحقيقة أنْ نرى "أعراساً انتخابية" تضم الأكثرية، أو حتى الأكثرية الساحقة، من الناخبين العرب؛ فهذه "الأكثرية الشعبية" هي خير دليل على أنَّ "الشعب"، أو "المجتمع"، ما زال "أقلية سياسية". أيُّهما أوَّلاً، "الدستور" أم "الديمقراطية"؟ الديمقراطية أوَّلاً؛ فأوَّلاً، وبادئ ذي بدء، يتمكَّن (أقول "يتمكَّن" ولا أقول "يُمكَّن") الشعب (أفراداً وجماعات) من ممارَسة حقوقه الديمقراطية والسياسية والمدنية كاملةً غير منقوصة؛ وهذا إنَّما يعني بدء مرحلة انتقالية (ليست بالقصيرة) فيها من الحرِّية والديمقراطية والحراك والجدال والتفاعل والانحلال والتركيب.. ما يكفي لولادة المجتمع الحر؛ والحاجة إلى هذه المرحلة لا تنتفي مهما خالطها من أخطاء وخلال وسلبيات، فالناس لا تتعلَّم إلاَّ من تجاربها، ومِمَّا انطوت عليه هذه التجارب من أخطاء وخلال وسلبيات. ولا بدَّ للأفكار والآراء والمقترحات الدستورية من أن تكون مدار الجدل الشعبي والحزبي في المرحلة الانتقالية؛ فمن هذه الطريق يأتي الدستور الديمقراطي الجديد العصري. قد يزدحم "الشارع السياسي"، في المرحلة الانتقالية، بالأحزاب والمنظمات والجماعات السياسية، فـ "يتعرقل السير"؛ لكنَّ هذه الحال لن تدوم طويلاً؛ فإنَّ ما يشبه قانون "الانتخاب (أو الانتقاء، أو الاصطفاء) الطبيعي" سيَفْعَل فعله، محوِّلاً هذا الشتات الحزبي إلى نقيضه. مشروع الدستور الجديد لن تتولى كتابته إلاَّ لجنة، أو هيئة، من خبراء القوانين والدساتير؛ وينبغي لهذه اللجنة، أو الهيئة، أنْ تُنْتَخَب انتخاباً شعبياً؛ وينبغي لها، بعد انتخابها، وفي أثناء عملها، أن تُظْهِر انفتاحاً على ما تمخَّض عنه الجدل الدستوري الشعبي والحزبي من أفكار وآراء ومقترحات. وبعد انتهائها من كتابة مشروع الدستور الجديد، يُدْعى الشعب إلى الإدلاء برأيه فيه، فإذا أقرَّه بدأ الإعداد لانتخاب برلمان جديد، تنبثق منه حكومة، تَعْدِل وتساوي "السلطة التنفيذية" في البلاد، وتأتي ممثِّلةً للغالبية البرلمانية؛ على أنْ يُنْتَخب هذا البرلمان وفق نظام التمثيل النسبي؛ فهو وحده الذي في مقدوره تسييس الحياة الانتخابية والبرلمانية في مجتمعاتنا العربية؛ أمَّا رأس الدولة فلا يملك إلاَّ ما يملكه عَلَم البلاد من أهمية رمزية. والدستور الجديد، الديمقراطي والعصري، إنَّما هو الدستور الذي لا يضيق بأيِّ خيار سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي جديد للشعب الحر، والذي يتَّسِم بكل ما من شأنه أنْ يجعله "السُّلَّم" بمعنييه: "سُلَّم للصعود (إلى قِمَّة السلطة)"، و"سُلَّم للهبوط (منها)"، والذي فيه من الديمقراطية والحرِّيَّة ما يجعل حتى المتطرفين في معارضتهم السياسية (والفكرية) منحازين إلى مبدأ "التداول السلمي للسلطة"، والذي يجعل كل أقلية، وكل معارضة، تَشْعُر بأهمية وجدوى وضرورة أنْ تكون، أو أنْ تظل، جزءاً لا يتجزَّأ من هذا الكل المجتمعي.

Comments

عاجل