المحتوى الرئيسى

ما بين طرفة عين وانتباهتها بقلم:ياسين السعدي

03/01 13:17

هدير الضمير ما بين طرفة عين وانتباهتها ... !! ياسين السعدي قال تعالى في الآية 128 من سورة التوبة يطمئن المسلمين أنه، سبحانه وتعالى، لطيف بعباده، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). وهكذا ندرك أن الله جل جلاله، لن يتخلى عن هذه الأمة مهما بلغت من الضعف؛ لأنه في النهاية سوف يكرمها ويرفع شأنها مرة أخرى، كما حدث في مواطن معروفة عبر التاريخ. وصلت الأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية درجة مزرية من اليأس والقنوط والإحباط لما تعانيه من المذلة والهوان، وصارت مادة التندر والتفكه بين الأمم، ولم يعد لها مكانة بين الشعوب؛ كما قال الشاعر العربي الكبير؛ عمر أبو ريشة، في قصيدته المشهورة (نخوة المعتصم) متحسراً ومتألماً: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم؟! وصلت الأمة العربية إلى مرحلة مهينة من الاستخذاء أمام حكامها المستبدين وأعدائها الطامعين بخيراتها واحتواء مقدراتها، وتتكالب عليها القوى الاستعمارية، وتعمل على تفتيتها وتجزئتها وبث روح الهزيمة، وخصوصاً بعد كل نكبة أو نكسة؛ بحيث صار المواطن العربي في أي قطر من الأقطار العربية يشعر بأن أمته قد ماتت ولن تقوم لها قائمة. لكن الأمة التي تحتضن القرآن الكريم تظل أمة حية لا تموت، وإن تراجعت مكانتها، وتنهض بعد كبوتها. هكذا حصل أيام الغزو الصليبي حين استيقظت من غفوتها ونهضت من كبوتها واستعادت قوتها ومكانتها وحررت البلاد ودحرت الغزاة. وهو ما حدث في مواجهة الغزو المغولي حين اجتاح المغول عاصمة الخلافة بغداد، ووصلت قواتهم إلى أبواب مصر. لكن الله ردهم ودحر قواتهم عندما تمت هزيمتهم في معركة عين جالوت سنة 1260م، وحفظ الله هذه الأمة من الدمار الذي كان يحل بالبلدان التي اجتاحتها جحافل التتار التي كانت تدمر كل ما كان يقف في طريقها. وصل اليأس مداه في تلك الأوقات العصيبة التي كانت الأمة تمر بها. ولكن الله كان ييسر لها من يقودها إلى النصر ورد العدوان ودحر الغزاة والطامعين. ويبدو أن أعداء هذه الأمة أدركوا أنها أمة لا تغلب ولا تهزم إلا إذا تم تفكيكها إلى قطع ممزقة ونصبوا عليها من يسوسها بما يملونه عليهم حسب ما يريدون، وحسب ما يخططون له من استعمار مباشر أو غير مباشر. لقد وقعت كل البلاد العربية تقريباً في قبضة الاستعمار الذي نفذ هذا البرنامج اللئيم بكل ما أوتي من خبث ودهاء، فصار الوطن العربي الواحد أكثر من عشرين دولة، وعمل على ترسيخ مفهوم الاستقلال كما يريده هو، وليس كما تتمناه الأمة العربية والإسلامية، وكما كان في أيام العزة والمنعة التي عاشوها عندما كانوا موحدين ومتحدين في دولة واحدة. لا ننكر أن كل الأقطار العربية قاومت الاستعمار وناهضت الاحتلال وتخلصت من الهيمنة المباشرة وصارت لها أعياد قومية تتغنى بالاستقلال الذي لم يكتمل، ولن يكتمل أبداً إلا عندما يعود العرب إلى ما كانوا عليه من الوحدة وبناء الدولة العربية الإسلامية القوية التي ترعى استقلالهم الحقيقي وحريتهم شبه المصادرة وكرامتهم المنقوصة. حدثت الانقلابات العسكرية في معظم الأقطار العربية وحدثت محاولات (الإصلاح والتغيير) والقيام ب (الحركات التصحيحية)، ولكنها كلها اصطدمت بمطامع السلطة الفردية، وطموحات الذين تبوئوا مواقع القيادة، بحيث صاروا (مؤبدين) في مواقعهم، بل وصاروا يسعون إلى تطبيق مبدأ توريث الحكم، وصار بعضهم من لصوص الثروات بعد أن كانوا قادة الثورات. النهضة الجديدة في منتصف القرن الماضي، عندما كنا طلاباً على مقاعد الدراسة، كنا نقرأ عن النهضة العربية الحديثة في مجالات الأدب والعلوم ومحاربة الاستعمار والحصول على الاستقلال. لا ننكر أبداً دور الذين قاموا بجهودهم من أجل رفعة هذه الأمة، وتضحيات الذين قاوموا الاستعمار الغربي بأشكاله التقليدية المعروفة من السيطرة المباشرة. لكن الاستعمار استبدل جلده وعدل، بل بدل منهاجه وتسلل إلينا عبر مناهجه الخبيثة باسم الحداثة ومجاراة العصر واللحاق بركب المدنية الغربية المتفوقة، فانغمسنا في التقليد الأعمى، ولم نأخذ ما يناسب مقاساتنا الفكرية والدينية والاجتماعية والثقافية، وما يحفظ لنا خصوصياتنا، ويحافظ على تراثنا وإرثنا الحضاري العظيم. لقد أدرك المفكرون العرب في كل الأقطار العربية، أنهم لا بد لهم من تحقيق أهداف الأمة وطموحاتها بالوصول بها إلى مكانتها التي تليق بها، وأن يكون لها (المنبر) اللائق الذي تحسر عليه شاعرها الكبير، عمر أبو ريشه، من حيث السيف الذي يعني القوة، والقلم الذي يعني الثقافة والعلم الذي يرفع الأمم ويعلي مكانتها. لقد نضج (الوعي العربي) ولم يعد مقتصراً على مجموعة من الضباط، مهما كانت طموحاتهم وصدق نياتهم، وأدرك الشباب العربي أنه هو الذي يجب أن يقود حركة (الإصلاح والتغيير) ولكنه قلب الشعار وسلك طريق (التغيير) أولاً لكي يتمكن من (الإصلاح) بعد ذلك. لبست الحركات الثورية الشعبية التي تعم الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، إلا تسلسلاً زمنياً منطقيا لتطور (الوعي العربي) الذي وصل اليوم إلى مرحلة يمكن أن يطمئن المواطن العربي في أية بقعة من الوطن الكبير، أن المستقبل مضمون، ولو طال الطريق وجلت التضحيات، وإن لم تأت هذه الحركات بنتائج سريعة، لأن الأوضاع الموروثة لا يمكن أن تمحى بين عشية وضحاها. هذه تجارب كل الشعوب التي مرت بمثل ما مر وما يمر به الشعب العربي، ولا بد أن تصل في النهاية إلى ما بلغته الشعوب الحية من التقدم والرقي والازدهار والحرية والاستقلال والاستقرار، مهما حاولت القوى المعادية أن تضع في طريقها من الدسائس والمؤامرات ومحاولات الاستحواذ والاحتواء. الشباب العربي الواعي لطبيعة المرحلة، هم طلائع التغيير، ولكنهم هم أيضا سوف يكونون قادة الإصلاح عندما تستقر الأوضاع وتهدأ براكين الغضب التي انفجرت في الوطن العربي الذي أريد له أن يظل مستغرقاً في هوانه وخذلانه، فإذا به ينهض بقوة وينفض عنه لباس الذل الذي أسبغه عليه أعداؤه من المستعمرين والغاصبين، ومن نصَّبهم الاستعمار من صنائعه وأعوانه المستبدين. قال سبحانه وتعالى في أول سورة الطلاق: (... وتلك حدود الله، ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً). صرخة ألم قديمة كان الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري، يلقب ب (ضمير القومية العربية). وهو من أكثر شعراء الأمة العربية إحساساً بقضاياها ومترجماً لآمالها ومعبراً عن آلامها. وكان معروفاً بعدائه الشديد للقوات الفرنسية التي احتلت سوريا ولبنان. قال في أحدى قصائده وموجهاً كلامه إلى الزعيم الدرزي، سلطان باشا الأطرش، حين أشعل الثورة علي الفرنسيين سنة 1925م: فتى الهيجاء لا تعتب علينا ***** وأَحسِنْ عُذرَنا تحسنْ صنيعا تَمَرَّستمْ بها أيام كنا ***** نمارسُ في سلاسلنا الخضوعا فأوقدتم لها جثثًا وهامًا ***** وأوقدنا المباخر والشموعا إذا حاولتََ رفعَ الضيم فاضربْ ***** بسيف محمدٍ واهجرْ يسوعا (أحبوا بعضكم بعضًا) وُعظنا ***** بها ذئبًا فما نجَّت قطيعا ألا أَنزلتََ إنجيلاً جديدًا ***** يعلِّمنا إباءً لا خنوعا أجِِرْنا من عذاب النير لا من ***** عذاب النار إنْ تكُ مستطيعا و يا لبنان مات بَنوك موتاً ***** وكنت أظنَّهم هجعوا هجوعا ألم تَرَهُمْ ونار الحرب تُصلى ***** كأنَّ دماءهم جَمَدَتْ صقيعا بدتْ لك فرصةٌٌ لتعيش حرًّا ***** فحاذرْ أن تكون لها مُضيعا وختمها بقوله محذراً من التراجع والتخاذل: وما لك بعد هذا اليوم يومٌ ***** فإنْ لم تستطعْ لن تستطيعا!! وقديماً قالت العرب: (دوام الحال من المحال). وفي ذلك يقول الشاعر: ما بين طرفةِ عينٍ وانتباهتها ***** يُغَيِّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ!! نشرت في جريدة القدس يوم الأحد بتاريخ 27/2/2011م؛ صفحة 44 [email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل