المحتوى الرئيسى

دينك لحمك دمك

03/01 12:15

بقلم: د. محمد الدسوقيأغلى ما يعيش له الإنسان هو دينه الذي يمثِّل اللحم والدم، كما قال الإمام حسن البصري، وكما رددته الألسنة وعملت به القلوب ووعته العقول، وهذا الذي شرعه لنا الله عز وجل، فقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)﴾ (الشورى)، وبأمر الله الذي نأتمر به أن نقيم الدين في نفوسنا ومجتمعنا، بل العالم بأسره ولا نتفرق فيه، ومن أقوال الإمام الهضيبي المأثورة: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم". وأعود فأتصفح رسائل الإمام البنا عليه رحمة الله، لأستخرج منه عظيم البيان وحسن التبيان عن الدين، فأقدِّم لهذه المقالة تحت عنوان (تحديد الوسيلة واعتماد المبدأ)، والتي نشرت بالعدد 18 من جريدة (الإخوان المسلمون) بتاريخ 27 جمادى الأول 1353هـ فيقول:تحديد الوسيلة واعتماد المبدأقد علمت أيها القارئ الكريم أن الإخوان المسلمين يقصدون أول ما يقصدون إلى تربية النفوس وتجديد الأرواح وتقوية الأخلاق وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوس الأمة، وقد يعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تُبنى عليه نهضات الأمم والشعوب. وقد استعرضوا وسائل ذلك وطرائق الوصول إليه، فلم يجدوا فيها أقرب ولا أجدى من الفكرة الدينية استمساك بالأهداب (الدين). الدين.. الذي يحيي الضمير ويوقظ الشعور وينبه القلوب، ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل وحارسًا لا يسهو وشاهدًا لا يجامل ولا يحابي ولا يضل ولا ينسى، يصاحبها في الغدوة والروحة والمجتمع والخلوة، ويراقبها في كل زمان ويلاحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفاعًا ويدعها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الذلل ويبصرها سبيل الخير والشر: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)﴾ (الزخرف).  الدين.. الذي يجمع أشتات الفضائل ويلم أطراف المكارم، ويجعل لكل فضلة جزاء ولكل مكرمة كفاءً، ويدعو إلى تزكية النفوس والسمو بها وتطهير الأرواح وتصفيتها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس). الدين.. الذي يدعو إلى التضحية في سبيل الحق، والفناء في إرشاد الخلق، ويضمن لمن فعل ذلك أجزل المثوبة، ويدل من سلك هذا النهج أحسن الجزاء, ويقدر الحسنة وإن صغرت، ويزن السيئة وإن حقرت، ويبدل الفناء في الحق خلودًا والموت في الجهاد وجودًا. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾ (آل عمران).  ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾ (الأنبياء). الدين.. الذي يشتري من المرء هذه الأغراض الدنيوية، وتلك المظاهر المادية بسعادة تمتلئ بها نفسه، ويهنأ بها قلبه من فضل الله ورحمته ورضوانه ومحبته ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: من الآية 96). الدين.. الذي يجمع كل ذلك، ثم هو بعد يصافح الفطرة ويمازج القلوب ويخالط النفوس، فيتحد بها وتتحد به، ويتخلل ذرات الأرواح، ويساير العقول فلا يشذ عنها ولا تنبو عنه.. يهش له الفلاح في حقله، ويفرح به الصانع في معمله، ويفهمه الصبي في مكتبه، ويجد لذته وحلاوته العالم في بحوثه، ويسمو بفكرته الفيلسوف في تأملاته. وهل رأيت على نفوس البشر سلطانًا من الدين؟ وهل رأيت في تاريخ البشرية أعظم تأثيرًا في حياة الأمم والشعوب منه؟ وهل رأيت للفلاسفة والعلماء ما كان من التأثير البليغ للمرسلين والأنبياء؟ لا وأبيك فإنما الدين قبس من روح الله السارية في ذرات هذه النفوس، وفطرها يضيء ظلامها، وتشرق بنوره، ويأوي إليها فتهش له؛ فإذا تمكن منها كان كل شيء له فداء: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة). الدين.. الذي يسمو بقدسيته وجلاله فوق كل نفس، ويعلو على كل رأس، ويجل عن الاختلاق، ويتنزه عن التقليد والمحاكاة، فيوحد بذلك بين القلوب ويؤلف بين النفوس، ويقطع مادة النزاع، ويحسم أصول الخلاف، ويزيد ذلك ثباتًا وقوة بتوجيه القلوب إلى الله وحده، وصرف النفوس عن الأغراض والمطامع والشهوات واللذائذ، والسمو بالمقاصد والأعمال إلى مراتب المخلصين الصادقين الذين يبتغون بعملهم وجه الله لا يرجون من ورائه جزاءً ولا شكورًا ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: من الآية 13). الدين.. الذي يسمو بالوفاء إلى درجة الشهادة، ويعده فريضة يسأل بين يدي الله عنها، وفضيلة يتقرب إلى الله بها، ودليلاً على الرجولة الكاملة والعزيمة الصادقة ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ (الأحزاب).  الدين.. مجتمع الفكرة الصائبة، ومعقد الآمال المتشعبة، ورمز الأماني الفردية والاجتماعية والقومية والعالمية؛ وذلك تعبير له تعبير ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)﴾ (المنافقون). رأى قوم أن يصلحوا من أخلاق الأمة عن طريق العلم والثقافة، ورأى آخرون أن يصلحوه عن طريق الأدب والفن، ورأى غيرهم أن يكون هذا الإصلاح عن طريق أساليب السياسة، وسلك غير هؤلاء طريق الرياضة؛ وكل أولئك أصابوا في تحديد معاني هذه الألفاظ أو أخطأوا، وسددوا أو تباعدوا، وليس هذا مجال النقد والتحديد؛ ولكن أريد أن أقول إن الإخوان المسلمين رأوا أن أفعل الوسائل في إصلاح نفوس الأمم (الدين). ورأوا إلى جانب هذا أن الدين الإسلامي جمع محاسن كل هذه الوسائل وبعد عن مساوئها؛ فاطمأنت إليه نفوسهم، وانشرحت به صدورهم، وكان أول وسائلهم العملية في تطهير النفوس وتجديد الأرواح: (تحديد الوسيلة واختيار المبدأ)، وعلى هذا الأساس وضعت (عقيدة الإخوان المسلمين) مستخلصة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تخرج عنهما قيد شعرة.. وفرض الإخوان على أنفسهم حفاظها والتزام حدودها وتنفيذ نصوصها والقيام بتعهداتها.. وأعتقد أنها وسيلة عملية في تربية النفوس وتقويم الأخلاق، وبهذه المناسبة أذكر كل أخ مسلم بأن من واجبه أن يحفظ عقيدته، ويعمل على إنفاذ ما تستلزمه من تعهدات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾ (التوبة). وبعد أيها الأحباب الكرام لا بد أن نعيش لديننا ونحيا به ليقودنا إلى الفلاح في آخرتنا، وحينما نقول إن "الإسلام هو الحل" فنحن نرفعه شعارًا ومنهجًا صالحًا لكل نواحي الحياة للمسلمين ولغيرهم، ولإسعاد البشرية جمعاء، ففيه الرسالة الخاتمة ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: من الآية 19)، ولا بد أن نقف جميعًا في وجه كل من يريد أن يغيب الدين عن حياتنا، وكفانا ما وصلنا إليه من تخلف في جميع المجالات؛ لبعدنا عن ديننا الذي ارتضاه الله لنا.. ولتتكاتف الأيدي وتجتمع النفوس وتتوحد القلوب، ونعتصم بحبل الله جميعًا، ولا نتفرق لنعيد للبشرية حضارة الإسلام الزاهرة النافعة لكل العالمين؛ فهل نحن فاعلون؟!. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل