لوجه الله ومصلحة الوطن: الشعوب تصنع طواغيتها!
يقيناً إن الشعوب هي التي تصنع طواغيتها.. إذ لا.. ثمة غير الخوف.. ما يُغري القطط بالتنمر.. والكلاب بالإستئذاب.. وليس كالخوف.. ما يُغوي الراعي بقيادة القطيع نحو المسلخ.. فلكي لا يغدو الراعي ذئباً.. فإنه يتعين علي الشعوب.. ألا تكون خرافاً.. كي لا تغدو الأوطان مسالخهذه السطور الشعرية البسيطة للغاية في تراكيبها العميقة جدا في مغزاها هي للشاعر العراقي يحيي السماوي وهي تقدم لنا الوصفة السحرية لصناعة الطاغوت. والطاغوت في اللغة هي صيغة تعني مبالغة المبالغة علي وزن فعلوت ومنها جبروت ورحموت. واسم الفاعل من الفعل طغي هو طاغ وصيغة المبالغة منه هي طغاء أما الطاغوت فهو مبالغة المبالغة وتعريفة في المعجم الوسيط هو: »كثير الاعتداء وكثير الطغيان وكل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير وهو أيضا الشيطان والكاهن«. لكن هناك حقيقة مهمة للغاية يغفلها الشاعر يحيي السماوي في سطوره السابقة وهي أنه ليست كل الشعوب تصنع الطواغيت وانما الشعوب الجاهلة أو المغيبة عن الوعي والفاقدة تركيزها في قضاياها. وفي فيلمه الرائع »سفر الرؤية الآن« الذي عرض تحت اسم »نهاية العالم الآن« من بطولة عبقري الأداء التمثيلي مارلون براندو نحن أمام عقيد بالجيش الأمريكي في ذروة حرب فيتنام هبط اضطراريا في الخطوط الخلفية بمنطقة غابات بدائية ورغم انتهاء الحرب رفض العودة الي بلاده فتم ارسال فرقة من القوات الخاصة المارينز لانقاذه ظنا بأنه مختطف. وبعد مغامرات عنيفة للوصول الي حيث يستقر العقيد داخل أحد الكهوف يدخل قائد الفرقة الخاصة بعدما فقد كل رجاله الي الكهف ويدور حديث بينه وبين العقيد نكتشف من خلاله أن العقيد ليس مختطفا وانما هو باق برغبته فهو يظن نفسه الها ويطلب من قائد فرقة الانقاذ أن يسجد له والا حلت عليه اللعنات وحتي يثبت هذه الألوهية فهو يخرج من الكهف علي الشعب ليفاجأ القائد بأن الآلاف يسجدون للعقيد. فهم بدائيون فوجئوا بإنسان بينهم يرتدي ملابس تختلف عنهم ويحمل معدات لم يسبق لهم أن تخيلوها وفي يده أزرار ملونة تنطق فتوهموا أنه الاله الموعود وتعاملوا معه علي هذا الأساس ورفضوا منه أي شرح للحقيقة الي درجة أنهم توقفوا عن النظر اليه تقديسا وكانوا يوفرون له يوميا أفضل الطعام والشراب ويقدمون له أجمل الفتيات. وهكذا استقر في وجدان العقيد أنه بالفعل اله يستحق التقديس. وفي نهاية الفيلم تدور معركة شرسة تنتهي بقيام قائد فرقة الانقاذ بقتل العقيد. وكان مشهد النهاية ان القائد "القاتل "عندما خرج من نطاق الكهف الي حيث الناس فوجيء بهم يسجدون له أيضا. وهكذا قدم لنا الفيلم حقيقة أن البدائيين الجهلة هم الذين يصنعون الالهة رغما عنهم!. وربطت بين ذلك وبين مشهد لا أنساه للرئيس السابق حسني مبارك قبل بدء خطابه الأول بعد انتخابه رئيسا للجمهورية في العام 1981 أمام الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشوري. فقد فوجيء مبارك بكاميرات التصوير لا تتوقف عن التقاط الصور له من كافة الأركان والزوايا فوقف للحظة ثم قال للمصورين بغضب »حقيقي«: كفي كفي. وضجت القاعة بالتصفيق للمعني وراء الغضب من كثرة التصوير. فقد كان مبارك وقتها يعي أن هذا الاعلام التأليهي هو الذي تسبب في اغتيال الرئيس الاسبق أنور السادات. وظل مبارك واضعا في اعتباره دروس التاريخ وهو يمنع زوجته من المشاركة بأي شكل في الأعمال الاجتماعية العامة لأنه كان يعلم كيف كان لسابقتها السيدة جيهان السادات دور في زيادة الانتقادات للسادات. وظل مبارك محافظا علي تلك الدروس لسنوات ليست بالقليلة لكنه بطول مدة البقاء وبتصفيق حاد يحظي به أي كلام ينطق به وأي موقف يتخذه حتي لوكان نقيضا لموقف سابق له هو نفسه واعلام يزين له الباطل حقا ويعتبر أن مصر ولدت يوم مولده وأنه هو الذي تخضر الصحراء لطلعته البهية بمجرد مروره أمامها في مواكبه الرسمية. ان أعضاء مجلسي الشعب والشوري الذين التهبت أكفهم من التصفيق لمبارك وهو يعلن أن المساس بالدستور خط احمر لا يجب الاقتراب منه هم انفسهم الذين التهبت أكفهم كذلك بتصفيق أكثر شدة وهو يعلن بعدها بأقل من شهر تعديل 36 مادة من مواد الدستور لأنها لم تعد صالحة! وهذا مثال واحد يمثل نموذجا لصناعة الطواغيت. واذا كان مفهوما السبب في هذا التصفيق للشيء ونقيضه من جانب نواب الشعب بوصف معظمهم من زمرة المستفيدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة من بقاء الحال علي ما هو عليه فإن ما لم يكن مفهوما هو السكوت الكامل من الشعب المصري والرضا بما يجري وكأنه قدر مكتوب. والحقيقة ان السبب كان هو أن نسبة الجهل بين المصريين كانت هي الغالبة اضافة الي نجاح كامل في استراتيجيات تغييب العقول والالهاء بصراعات لا أساس لها وتغذية أحقاد. والله سبحانه وتعالي يفرض علي الناس أن يكونوا هم المبادرين بالفعل فيستجيب لهم. يقول سبحانه: »قال ربكم ادعوني استجب لكم« وقال تعالي: »لئن شكرتم لأزيدنكم«.. و»من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب«.. و»ان الله لايغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم«.. صدق الله العظيم. وهكذا تحقق الفعل القدري بنزع الملك بمشيئة الله سبحانه وتعالي بمجرد أن تحرك الشعب وصمم علي فك قيوده. وعلي ذلك تصبح الدعوة الي محاربة الجهل والأمية وتشجيع العلم والثقافة والمشاركة في العمل السياسي والخدمة العامة وعدم الالتهاء بالصغائر هي الدعوة التي لا ينبغي أن تتوقف حتي لا نعود نصنع بأيدينا الطواغيت من جديد. اللهم احفظ مصر وطنا للعدل والأمن والأمان.
Comments