المحتوى الرئيسى

مصر.. أكثر من "انتفاضة" وأقل من "ثورة"!بقلم: جواد البشيتي

02/26 19:48

مصر.. أكثر من "انتفاضة" وأقل من "ثورة"! جواد البشيتي من وجهة نظر عِلْم الثورة، يجب فهم الوجود الواقعي والفعلي والحقيقي للثورة على أنَّه شيء مماثِل لوجود المرأة الحامل؛ فالمرأة، ولجهة علاقتها بالحمل، إمَّا أنْ تكون حاملاً وإمَّا أنْ تكون غير حامل، فلا وجود أبداً للمرأة نصف، أو رُبْع، أو شبه، الحامل. وهذا إنَّما يعني (ومن وجهة نظر علمية صرف) أنَّ المشهد الثوري الذي نشاهده الآن في تونس ومصر (على وجه الخصوص) ما زال مشهداً لـ "انتفاضة شعبية" لم تَجْتَز بَعْد عتبة التحوُّل إلى "ثورة"؛ ولا بدَّ، من ثمَّ، من صوغ المطالب والشعارات، وتنظيم وتطوير العمل الشعبي الثوري، وارتقاء سُلَّم الصراع، بما يضمن ويكفل تحوُّل "الانتفاضة" إلى "ثورة". وحتى لا يتمكَّنوا من السطو (بالخداع، وبأساليب قذرة أخرى) على الانتفاضة، أو على الثورة، بمعناها الشعبي العاميِّ، غير العلمي، أو حتى لا تنجح قوى الثورة المضادة (مع حلفائها في الخارج) والتي تتَّخِذ من شرم الشيخ، حيث يقيم حسني مبارك وزمرته وأعوانه، مقرَّاً وقاعدةً ومنطلقاً وغرفة عمليات لها، في الانقضاض على ميدان التحرير، لا بدَّ من إعادة تعريف الانتصار (العظيم والتاريخي) الذي أحرزه الشعب المصري وثورته، بما يجعل هذا الانتصار أكثر توافقاً مع واقعه الموضوعي، وبما يسمح للثوَّار، من ثمَّ، برؤية الطريق (بتشعبَّاتها ومحطَّاتها المختلفة) في وضوح ثوري أشد. إنَّ هذا الانتصار لا يعني (إذا ما أردنا لمشاعرنا وعواطفنا الثورية الحارة ألاَّ تُفْسِد رؤيتنا الموضوعية للأمور) أنَّ ما حلَّ بالشخص حسني مبارك يَعْدِل، أو يمكن أنْ يَعْدِل، سقوط نظام الحكم (الذي كان يمثِّل) برمَّته، فنظام الحكم هذا ما زال حيَّاً يُرْزَق، وما زال يصارع (سِرَّاً وعلانيةً) من أجل البقاء، وفي سبيل استعادة فردوسه المفقود؛ فالدكتاتور مبارك أُرْغِم على مغادرة القاهرة إلى شرم الشيخ، والتواري عن أنظار الشعب والإعلام؛ لعلَّ ذلك يفيد المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة، والقابض الآن على زمام السلطة الفعلية في البلاد، في إدارة الصراع بما يسمح له، أخيراً، بعقد "مصالحة" بين "الإصلاح السياسي والديمقراطي.." وبين المصلحة في بقاء نظام الحكم نفسه (من حيث الجوهر والأساس). ودرءاً لسوء الفهم والتفسير أقول إنَّ لعبة إفراغ بالون الثورة الشعبية من معظم هوائه والتي يلعبها "المجلس (العسكري) الأعلى"، بالتعاون مع بعض أركان نظام حكم مبارك، ومع حكومة أحمد شفيق على وجه الخصوص، لا تستهدف إعادة حكم البلاد إلى مبارك وعائلته، فهذا الدكتاتور المقيم في شرم الشيخ، وإنْ سُمِح له بشيء من حرِّية النشاط، ليس جزءاً من الحل النهائي الذي يحاوله هذا "المجلس"، ويسعى إليه؛ وقد يُوَظَّف "اضطِّهاد" هذا "المجلس" لمبارك وعائلته في السعي إلى إنجاح اللعبة نفسها، لعبة المصالحة بين شيء من الإصلاح وبين المصلحة العليا (للمجلس) في الإبقاء على نظام الحكم نفسه، من حيث الجوهر والأساس؛ فإنَّ "مبارك في شرم الشيخ" هو ورقة من أوراق اللعبة التي يلعبها "المجلس الأعلى". مبارك الآن مقيم (أو مُجْبَر على الإقامة) في شرم الشيخ، ويتحرَّك مع أعوانه وزمرته بشيء من الحرية، ليس من أجل أنْ يُعاد إلى الحكم، وإنَّما من أجل أنْ يكون ورقة رابحة في تلك اللعبة، أي من أجل جعله، من خلال "اضطِّهاده"، كقطعة إسفنج يمتَّصون بها جزءاً من غضب الشعب المصري وثورته؛ لكنَّ مبارك (مع أعوانه وزمرته وحاشيته) يمكن أنْ تدب فيه الحياة، أو يُحرَّر من قيوده، إذا ما تطوَّر الصراع بما يَحْمِل المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة على الانحياز العلني والتام والصريح ضد الشعب وثورته، أي عندما تفشل لعبته لإنقاذ نظام الحكم في مصر (ولتحقيق "الحل النهائي" الذي يُطَمْئِن أيضاً الولايات المتحدة وإسرائيل). "المجلس الأعلى"، مع كثيرٍ من أركان نظام حكم مبارك، وحكومة أحمد شفيق، وإدارة الرئيس أوباما، التي تعبِّر أيضاً عن وجهة نظر إسرائيلية، قالوا، ويقولون، لمبارك إنَّهم قد ضحُّوا به من أجل أنْ تنجح محاولتهم لإنقاذ نظام الحكم (بعد إصلاحه إصلاحاً ليبرالياً تافهاً) ولدرء المخاطر عن السلام بين مصر وإسرائيل، وعن المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة في مصر، وعلى المستوى الإقليمي؛ وإنَّهم قد يعاقبونه إذا ما استلزم ذلك نجاح محاولتهم؛ فإذا فشلت محاولتهم، أو أوشكت أنْ تفشل، بسبب "الأطماع الثورية" للشعب، فإنَّهم سيضمُّونه، عندئذٍ، إلى معسكر قوى الثورة المضادة، والذي لا مانع يمنعه (أي يمنع هذا المعسكر) من السير في الطريق نفسها التي سار، ويسير، فيها القذافي. وإيَّاكم أنْ تتوهَّموا أنَّ "المجلس الأعلى" يتكلم ويتصرَّف ويعمل من غير تنسيق تام مع الولايات المتحدة وسفارتها في القاهرة؛ فإنَّهم يريدون انتصاراً للثورة يَعْدِل لجهة معناه التخلُّص من حكم مبارك، وتحقيق جملة من الإصلاحات الليبرالية التي هي، لجهة وزنها وحجمها، قطرة في بحر انتفاضة الشعب المصري، وينطوي (أي ذاك الانتصار) على انتصار لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وللمصالح والأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة، مصرياً وإقليمياً؛ وكأنَّ الشعب المصري لم ينتفض إلاَّ لتنتهي انتفاضته إلى هذا "الانتصار" الذي يشبه فأراً وُلِد بعد، وبفضل، تَمخُّض هذا الجبل الثوري! الشجرة إنَّما تَدُل عليها ثمارها؛ وإنَّ ما نراه من ثمار المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة يدل على حقيقية وماهية شجرته. لو كان "المجلس" منحازاً فعلاً إلى الشعب وثورته لانتفت لديه الحاجة إلى حكومة أحمد شفيق، وَلَعَيَّن، بالتعاون مع الثوَّار وقيادتهم في ميدان التحرير، حكومة انتقالية تُسيِّر شؤون البلاد عبر وزراء من ذوي الاختصاص المهني، ولَرَفع حالة الطوارئ فوراً، ولَرَفَع فوراً أيضاً كل القيود عن الحقوق والحرِّيات الديمقراطية والسياسية والمدنية، وَلَدَعا الشعب إلى انتخاب هيئة أو لجنة من رجال القانون والخبراء في الدستور، تتولَّى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد، فإذا انتهت من إعداده دُعي إلى استفتاء شعبي يدلي من خلاله الشعب برأيه في مشروع الدستور هذا، فإذا أقرَّه الشعب عُيِّن موعد لإجراء الانتخابات البرلمانية التي ينبثق منها برلمان، تنبثق منه حكومة، تملك السلطة التنفيذية كاملة (تقريباً). ومن هذا البرلمان، وبالانتخاب، يمكن الإتيان برئيس للجمهورية، يشبه، لجهة سلطاته، ملكة بريطانيا. وينبغي لهذا الموعد أنْ يتحدَّد بما يلبِّي حاجة الشعب إلى إنشاء وتطوير قوى حزبية حقيقية. هذه هي وحدها الطريق إلى تحويل "الانتفاضة" إلى "ثورة"، وإلى انتصار الثورة من ثمَّ؛ أمَّا الطريق التي يسير فيها "المجلس الأعلى"، ويسعى في تسيير الشعب وانتفاضته فيها، فهي المؤدِّية سريعاً إلى "تعديل دستوري"، تُرْفَع بعده حالة الطوارئ، وتُعَيَّن حكومة جديدة مُرْضية نسبياً للشعب، وتُجْرى في ظلِّها الانتخابات البرلمانية والرئاسية، على أنْ يستأثر منصب رئيس الجمهورية بحصَّة الأسد من السلطة التنفيذية، وعلى أنْ يكون المرشَّح الرئاسي الفائز من العسكريين قلباً، ومن المدنيين قالباً. ومكافأةً للشعب على قبوله هذا "الحل النهائي" يمكن أنْ نرى لـ "المجلس الأعلى" يداً حديدية يضرب بها مبارك مع كثيرٍ من زمرته وحاشيته وأركان نظام حكمه، ويعيد بها الأموال المسروقة إلى خزينة الدولة؛ وقد يُتوِّج تلك المكافأة بتقديم مبارك نفسه إلى المحاكمة. أمَّا إذا أبى الشعب واستكبر، واستبدَّت به وبثورته "الأطماع الثورية"، وأصرَّ على المضي قُدُماً في الثورة، وصولاً إلى القضاء على نظام الحكم برمته، فينبغي لنا، عندئذٍ، أنْ نتوقَّع التوقُّع الأكثر واقعية من غيره حتى الآن ألا وهو أنْ يقرِّر "المجلس الأعلى" اللجوء إلى "عملية جراحية"، يسفح فيها دم الشعب وثورته من أجل مَدِّ عروق وشرايين نظام الحكم بمزيد من الدم؛ ولا شكَّ في أنَّ تحسبه لهذا الاحتمال هو ما يحمله على استبقاء حالة الطوارئ، فهي قانونه للثورة المضادة. لقد قيل، على شكل نكتة، إنَّ على الشعب الليبي ألاَّ يُعْلِن في شعار ثورته أنَّه يريد إسقاط النظام؛ لأنْ لا وجود للنظام حتى يسقطه، وإنَّ عليه، من ثمَّ، أنْ يُعْلِن أنَّه يريد إنشاء النظام. وعلى سبيل الجد لا الهزل في القول، أقول إنَّ ما يسمَّى "اللا نظام" هو نوع من النظام؛ وهذا النوع (الليبي) هو عينه نظام الحكم العربي عندما يُضطَّر إلى أنْ يَظْهَر، في قوله وفعله، على حقيقته العارية (من شكليات نظام الحكم). وينبغي لانتفاضة الشعب المصري ألاَّ تعلِّل نفسها بوهم أنَّ ما حدث في ليبيا على أيدي نظام حكم الدكتاتور معمر القذافي لن يحدث أبداً في مصر؛ فإنَّ إغراق الشعب وثورته في بحر من الدماء هو ميل فطري مشترَك بين أنظمة الحكم العربية المغتصِبة للسلطة اغتصاباً؛ وينبغي لهؤلاء المغتصِبين للسلطة أنْ يروا من قوى الرَّدع الشعبي ما يسمح بكبح هذا الميل لديهم، فإظهار هذه القوى هو وحده ما يجعل كفَّة العقلانية لدى مغتصِب السلطة ترجح على "الكفَّة القذافية"، أي على كفَّة الجنون. إنَّني لستُ من دعاة الصدام مع الجيش؛ لكنَّني ضدَّ الرومانسية الثورية في الموقف من قيادته العليا، وضدَّ الاستخذاء لوهم أنَّ المؤسَّسة العسكرية يمكن أنْ تنحاز إلى ثورةٍ بأهمية وعظمة ثورة الشعب المصري، فشعار "الجيش من الشعب" لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة هو أيضاً من الشعب؛ وإنَّ تاريخ الثورات الشعبية الظافرة ليؤكِّد لنا أنَّ الثورة لا تنتصر من خلال انحياز المؤسَّسة العسكرية إلى جانبها، وإنَّما من خلال عصيان الجيش لأوامر وتعليمات قيادته العسكرية العليا، التي هي جزء لا يتجزأ من نظام الحكم الذي تستهدف الثورة إطاحته. إنَّ ثورة الشعب المصري، وبصفة كونها مركز الزلزال الثوري الشعبي الديمقراطي القومي العربي، مدعوة الآن إلى أنْ تعيد صياغة مطالبها بما يجعل هذه المطالب من نمط "المطالب الانتقالية"، أي المطالب البسيطة في ظاهرها؛ لكن المتعذَّر على نظام الحكم تلبيتها في الوقت نفسه. وهذا النوع من المطالب هو ما يبقي الثورة الشعبية محتفظةً بطاقتها، ويكسبها مزيداً من الطاقة؛ ذلك لأنَّ نظام الحكم لا يمكنه تلبية "المطالب الانتقالية" من غير أنْ يحفر قبره بيديه، ولا يمكنه، في الوقت نفسه، رفض تلبيتها من غير أنْ يسكب مزيداً من الزيت على نار الثورة. وأحسب أنَّ مطلب "الجمعية التأسيسية" المنتخَبة التي تتوفَّر على إعداد دستور جديد للبلاد هو في مقدَّم "المطالب الانتقالية" التي ينبغي لقيادة الثورة المصرية إعلانها والاستمساك بها. أمَّا الوسيلة التي بها يصبح ممكناً الانتصار لهذا المطلب، ولغيره من المطالب الانتقالية، فهي "الاعتصام الشعبي المليوني والدائم" في ميدان التحرير، وفي سائر ميادين العاصمة والمدن، مع "الإضراب العام"، حتى يستخذي المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة لمشيئة الشعب وثورته، رافعاً "الراية البيضاء" لعلمه أنَّ اللجوء إلى الحراب لن يفضي إلاَّ إلى جلوسه هو عليها؛ وهذا ليس بانحياز من جانب المؤسَّسة العسكرية إلى الشعب وثورته، وإنَّما خضوع واستخذاء للمشيئة الشعبية المعبَّر عنها بتلك "المطالب الانتقالية".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل