المحتوى الرئيسى

الشيخ القرضاوي‮.. ‬القادم من بعيد

02/20 10:59

لحظات  خمينية الملامح‮. ‬هكذا شاء البعض‮ ‬ليوم الجمعة الماضي أن يبدو في‮ ‬نظر العالم‮. ‬هذا ما بدا لي لفترة من الوقت،‮ ‬منذ الصباح الباكر ازدحم ميدان التحرير حتي فاق الحشد كل توقع،‮ ‬مرة أخري يثبت الشباب قدرتهم علي الحشد،‮ ‬ماتزال الروح مشتعلة،‮ ‬متقدة،‮ ‬مصر اندلعت روحها ولم تهدأ،‮ ‬هذه الروح مكوناتها عديدة ومصادرها شتي،‮ ‬الدين أحدها وليس كلها،‮ ‬إنها روح مصر الوطن،‮ ‬وعندما نقول الوطن فإننا نعني المسلمين والأقباط وكل من يعيش علي أرض مصر،‮ ‬منذ اللحظة الأولي بدا أن الشباب يستدعون ثورة ‮٩١٩١ ‬ضد الانجليز بكل تقاليدها،‮ ‬الشعارات،‮ ‬الهتاف،‮ ‬كلها تدور حول مصر الوطن،‮ ‬الأعلام المصرية كانت في الأيدي،‮ ‬اليوم هزني مشهد مؤثر،‮ ‬أحد جنود القوات المسلحة يقف عند مدخل الميدان يوزع أعلام مصر علي القادمين‮. ‬علم مصر كان الغالب علي الميدان،‮ ‬ولكن عندما ظهر الشيخ القرضاوي خيم ظل علي الميدان،‮ ‬الشيخ جاء قبل موعد صلاة الجمعة بساعات معدودات،‮ ‬واعتلي منصة الميدان،‮ ‬كان ثمة شيء في هيئته وخطابه يذكر بالثورة الخمينية وتلك الثورة من أعظم ثورات الإنسانية،‮ ‬لكن مسارها مغاير للثورة المصرية،‮ ‬الثورتان تشتركان في البواعث والهدف،‮ ‬ضد الدكتاتورية والطغيان،‮ ‬لكن التوجه الأساسي في إيران كان دينياً،‮ ‬حل نظام الملالي محل الشاه،‮ ‬دكتاتورية رجال الدين محل دكتاتورية الشاهنشاه‮.. ‬وماتزال إيران تعاني،‮ ‬الثورة المصرية بواعثها ومسارها وطني،‮ ‬الإسلام جزء من مكوناتها،‮ ‬كذلك المسيحية،‮ ‬يعي الشباب ذلك،‮ ‬وفي الأيام الأولي للثورة كان موقف الإخوان‮ ‬غامضاً‮ ‬ثم اتضحت مشاركتهم المحدودة شيئاً‮ ‬فشيئاً،‮ ‬الإخوان هم الحزب الوحيد في مصر المنظم،‮ ‬النشط،‮ ‬ذو هيكل منظم،‮ ‬ومن أفضل نتائج الثورة ظهورهم العلني حتي يبدو حجمهم الحقيقي،‮ ‬لكن ثمة فرق بين المشاعر الدينية العميقة للمصريين علي اختلاف معتقداتهم وبين جماعة تستخدم الدين للوصول إلي السلطة وعندئذ ستنشأ ديكتاتورية مخيفة وأمامنا نموذج وصول حماس إلي السلطة في‮ ‬غزة وسلوكها الذي أهدر وأضعف القضية الفلسطينية مقابل الاحتفاظ بالسيطرة علي الإمارة،‮ ‬نشط الإخوان خاصة بعد انتصار ثورة المصريين جميعاً،‮ ‬وحاولوا الظهور ومازالوا بمظهر الأقوياء الذين أشعلوا الثورة وبالتالي قطف ثمارها،‮ ‬الملايين التي احتشدت في ميدان التحرير من المصريين المؤمنين،‮ ‬لكنهم ليسوا أعضاء في الجماعة أو‮ ‬غيرها،‮ ‬ثمة فارق دقيق بين إيمان الشعب العريق،‮ ‬أول من اكتشف أن الوجود ليس عبثاً،‮ ‬وأن وراء الظاهر من يديره،‮ ‬المصريون القدماء هم الذين هدوا العالم إلي فكرة الإيمان،‮ ‬وأرسوا أصوله،‮ ‬لذلك ثمة فارق كبير بين المؤمنين بمستوياتهم المختلفة ومن يستغل الدين للوصول إلي هدف آخر‮. ‬لقد تم ترتيب المشهد جيداً‮ ‬من قبل قوي تحاول ركوب ثورة الشباب وتوجيهها إلي أهداف ومسارات محددة،‮ ‬المشهد المهيب في ميدان التحرير كان له عدة قراءات،‮ ‬فمن سينظر إليه بدون أن يضع في اعتباره العمق الإيماني للمصريين والذي لا ينطلق من مذهب معين،‮ ‬ولا ينغلق علي رؤية محددة،‮ ‬سيظن أنه أمام مشهد إيراني،‮ ‬أي ثورة إسلامية،‮ ‬وهذا هو الهدف الكامن لبعض من شاركوا في الثورة متأخرين بعد بدايتها وكانوا مجرد فصيل،‮ ‬أما الذين يعلمون اتساع أفق المصريين،‮ ‬ومنطلقاتهم الإنسانية فسيقرأ المشهد بعمقه الديني والوطني،‮ ‬كان منبر الأزهر منطلقاً‮ ‬للجهاد في مختلف العصور،‮ ‬وقُدر لي أن أشهد الرئيس جمال عبدالناصر في عام ستة وخمسين يعتلي منبر الأزهر ويعلن أنه باق في القاهرة،‮ ‬وأنه مع أسرته،‮ ‬وأن الشعب المصري‮ »‬سيقاتل‮.. ‬سيقاتل‮« ‬الدين من المكونات الرئيسية للمصريين،‮ ‬ولكن ليس من أجل تكوين نظام سياسي يستمد مقوماته منه،‮ ‬ولعل العلم المصري الغالب علي المشهد أحدث قدراً‮ ‬من التوازن بين المشهد الرهيب للمصريين الذين جاءوا إلي الميدان في سعي وحشد جوهره وطني وإنساني شامل،‮ ‬وأولئك الذين أرادوا للمشهد أن تكون خلفيته هناك،‮ ‬لحظة عودة الخميني إلي طهران قادماً‮ ‬من باريس،‮ ‬حاولوا تصويرها علي أنها موازية لعودة الشيخ القرضاوي بعد‮ ‬غياب ثلاثين عاما في المنفي القطري،‮ ‬وهنا لابد من توضيح،‮ ‬فلم يكن الرجل ممنوعاً‮ ‬من التردد علي مصر،‮ ‬كان يجيء ويعود،‮ ‬وإن كنت أعتبر التضييق عليه ومنعه من اعتلاء المنابر في مصر أمراً‮ ‬غبياً،‮ ‬تعسفياً،‮ ‬وعندما جاء الرجل مؤخراً‮ ‬إلي مصر،‮ ‬وقصد زيارة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب،‮ ‬حاولت الأجهزة الأمنية الحيلولة دون إتمام اللقاء وهدد الدكتور الطيب بالاستقالة وتمت اللقاءات،‮ ‬هذا النوع من التدخلات السافرة،‮ ‬صغيرة الهدف،‮ ‬ضيقة الرؤية،‮ ‬يجب أن يتوقف،‮ ‬منع الشيخ القرضاوي من الظهور علي منابر مصر،‮ ‬وعبر قنواتها الفضائية يشبه منع الأستاذ هيكل طوال السنوات الماضية،‮ ‬كلاهما ملء السمع والبصر،‮ ‬والمنع لا معني له،‮ ‬لكن تحفظي علي مشهد يوم الجمعة بواعثه استثنائية اللحظة وفرادتها في التاريخ الإنساني ومن هنا كنت أتمني الحفاظ علي خصوصيتها بألا يتم إحالة المشهد الرهيب إلي لحظة أخري في التاريخ،‮ ‬لحظة لها خصوصيتها واحترامها،‮ ‬لكنها تختلف عن يوم الجمعة المصري،‮ ‬كنت أتمني أن يؤم المصلين أحد الشيوخ المصريين الأجلاء الذين شاركوا في الثورة،‮ ‬وكانوا مؤججين لها،‮ ‬لو أن الشيخ أحمد المحلاوي خطب في ميدان التحرير لاختلف المشهد تماماً،‮ ‬أو الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة في السويس وحافظ صمودها،‮ ‬وأحد الرموز الوطنية الكبري في مصر،‮ ‬كلاهما كان علي رأس الثورة ومن قادتها،‮ ‬كنت أتمني أن يخطب أحد شباب الثورة،‮ ‬تكتشفه الثورة وتقدمه،‮ ‬الشيخ القرضاوي عالم جليل،‮ ‬ربما كان من المناسب أن‮ ‬يخطب في صلاة الجمعة من فوق منبر الأزهر،‮ ‬عالم من الأجلاء،‮ ‬ولكن أن يتصدر المشهد الاستثنائي لانتصار ثورة لم يسهم فيها،‮ ‬ولم يتعرض لأخطارها،‮ ‬وأن يحرص ممثلو الإخوان المسلمين أو التيار الذي يدعو إلي الإسلام السياسي إلي إيجاد أوجه شبه بين ثورة إيران التي انتهت بحكم رجال الدين،‮ ‬والثورة المصرية التي انطلقت من مبادئ وطنية وإنسانية أشمل،‮ ‬حازت علي انبهار العالم،‮ ‬رسالتها الكونية وصلت إلي كل إنسان يعيش في الكوكب‮. ‬لذلك أنبه إلي خطورة حصرها في اتجاه بعينه،‮ ‬الثورة المصرية من الثورات النادرة في تاريخ الشعوب،‮ ‬وهي من نقاط الانطلاق الكبري في التاريخ عامة وفي تاريخ مصر خاصة،‮ ‬وأستعيد هنا أقرب الثورات شبهاً‮ ‬من التاريخ المصري نفسه،‮ ‬ثورة ‮٩١٩١‬،‮ ‬رغم الفارق،‮ ‬فتلك كانت موجهة ضد الاحتلال الأجنبي،‮ ‬وثورة المصريين التي قادها الشباب كانت ضد الدكتاتورية والفساد،‮ ‬ضد ما يعطل ويعيق الحياة الإنسانية،‮ ‬لكن يجمع بينهما مصرية الثورة وأصالتها وخصوصيتها،‮ ‬كانت ثورة ‮٩١٩١ ‬بداية الحقبة الليبرالية المجيدة في تاريخ مصر والتي انطلقت خلالها الروح المصرية عبر كبار مبدعيها،‮ ‬سيد درويش،‮ ‬مختار،‮ ‬أم كلثوم،‮ ‬توفيق الحكيم،‮ ‬محفوظ،‮ ‬سليم حسن وأسماء شتي في كل المجالات‮. ‬إن ثورة الشباب التي أصبحت ثورة كل المصريين فرصة مبهرة لكي تتحول مصر إلي قوة عظمي مثل الصين أو ماليزيا أو الاتحاد الأوروبي،‮ ‬ولن يتحقق ذلك إلا ببناء الدولة المدنية الكاملة بكل ما تعنيه حيث الكافة متساوون في الحقوق والواجبات وممارسة الحرية والشفافية،‮ ‬إن مصر وجوهرها الإنساني ملء العيون والأبصار في الكوكب كله،‮ ‬ومن المخاطر أن يحاول البعض صرفها إلي مسار بعينه أضيق وأقل محدودية،‮ ‬أو إحالة الثورة إلي مرجعيات قصية عنا،‮ ‬أو تبديل رموزها أولئك الذين قادوها واستشهدوا من أجلها بالقادمين من بعيد أياً‮ ‬كانوا‮.‬

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل