المحتوى الرئيسى

د.أشرف الصباغ يكتب:من قيرغيزيا إلى مصر مرورا بتونس

02/19 20:20

لا شك أن الثورة المصرية تفردت في العديد من جوانبها، إن لم يكن في كل الجوانب تقريبا. وسوف يتحدث التاريخ عن ذلك باستفاضة. وبقدر ما أظهرت هذه الثورة أنصع سمات الشخصية المصرية، إلا أن تعطش المصريين إلى الحرية جعلهم يتعجلون أي مكسب حتى وإن كان خلع رأس النظام والارتضاء بوعود حول دستور جديد وتصريحات بمحاكمات لرؤوس الفساد. ولكن اتضح أن الثوة المضادة لثورة الشعب المصري (ثوة 25 يناير 2011) ضد نظام حسني مبارك بدأت حتى من قبل خلع الرئيس وهروبه إلى مكان غير معروف. وبعيدا عن نظرية المؤامرة، فقد قام الرئيس المخلوع بوضع الفريق أحمد شفيق رئيسا للوزراء واللواء عمر سليمان نائبا له، ثم أخذ الجيش زمام المبادرة ليشكل عنصرا ثالثا تحت غطاء ضبط الأمن والحفاظ على نظام الدولة و"حماية المتظاهرين ومكاسب الثورة". وبما أن عمر سليمان ذهب مع مبارك وأسرته، فقد بقي أحمد شفيق المخلص جدا للنظام السابق وأحد أركانه والمدافع عنه. كما أن تدخل الجيش أعطى فسحة لبقايا النظام السابق وامتص بعضا من الغضب الشعبي العام ووزع وعودا لا تقل في قيمتها عن وعود أحمد شفيق لتي كان معظمها يتناقض مع كل ما يجري، سواء في فترة الثورة أو بعدها. كان من المفترض أن تقوم بقايا النظام السابق بالعمل على أكثر من محور ولكن يبدو أن التركيز انصب على أحمد شفيق ليبح قائد المرحلة الانتقالية (إما رئيس الحكومة أو أحد ركائزها). وأن يعمل الجيش على تهدئة الأمور، وهو ما من شأنه أن يزرع أكبر عدد من الشقاقات بين شباب الثورة وبين المعارض المصرية العتيقة والشكلية، وفي داخل كل منهما، وبين كل منهما وبين الناس. هذا الكلام تأكد تدريجيا، إذ لاحظنا أن الفريق أحمد شفيق بدأ يتحدث وكأنه سيظل إلى أبد الأبدين في منصبه. وأن الجيش رفض تغيير رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف الحكومية، والإصرار على عدم التعرض لمبارك وأسرته، ومحاولة إخراجهما عن ساحة المسالة القانونية. وبدلا من أن يعمل الجيش على صياغة دستور جديد فرض على الجميع فكرة العمل بدستور مؤقت بترقيع الدستور القديم المهلهل. وبدلا من إجراء محاكمات فورية لرؤوس النظام والمرتبطين بها، بدأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتسويف ومحاولة إبعاد بعض الرموز، تحت دعوى أنها كانت شريفة أو لم تعمل ضد الشعب أو أنها كانت تنفذ الأوامر أو تحت دعوى الأخلاق والرأفة. إن موقف الإنتلجنسيا المأجورة كان واضحا بشدة، سواء في المجالات الفنية أو الثقافية أو الفكرية والإعلامية. وكذلك موقف الأحزاب العتيقة، وعلى رأسها حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي وحزب الوفد. أما جماعة الإخوان المسلمين فكانت أكثر مراوغة، وخاصة في الفترة التي جرت فيها لقاءات ما وصف بالحوار مع الحكومة التي شكلها مبارك قبل خلعه من السلطة. ولا مجال هنا للحديث عن الأحزاب الوهمية التي لا يسمع بها أحد إلا الذين شاركوا في تأسيسها أو من أعطوهم رخصة العمل السياسي. هذه المواقف شكلت خلفية واضحة المعالم لعملية واسعة وشديدة التعقيد لتفريغ الثورة من مضمونها، وهي العملية التي قام بها كل الرموز الباقية من النظام السابق، وشارك فيها الجيش جزئيا. ففي الوقت الذي كانت ترفع فيه القضايا على وزارة الداخلية وضد مسؤولين بعينهم، كان الحديث يجري حول ضرورة تحسين صورة أجهزة الأمن والشرطة. وفي الوقت الذي كان الجميع يتحدث فيه عن الضحايا والشهداء والاغتصاب والتحرش والقمع، كانت الأوامر تصدر بضرورة تهدئة الأمور وحتمية إعادة قوات الأمن والشرطة إلى الشوارع. وبينما كان الشارع المصري يغلي من جراء ما قامت به الأجهزة الأمنية ضد المواطنين طوال 30 عاما، صدرت الأوامر إلى رؤساء تحرير الصحف ومقدمي البرامج التلفزيونية بالابتعاد عن موضوع الأجهزة الأمنية وممارساتها، بل وأن تقوم وسائل الإعلام بالترويج لصفحة جديدة في الوقت الذي أصرت فيه وزارة الداخلية المصرية على نفس طريقة التفكير وعدم الاعتذار عن ممارساتها والإعلان الفوري عن القتلة والمتحرشين ورفض الكشف عن الإجراءات غير القانونية التي نفذتها طوال فترة حكم مبارك، وبالذات فيما يتعلق بما ارتكبته من جرائم قبل لثورة وأثنائها. التجربتان التونسية والمصريةبعيدا عن نظرية المؤامرة، وإمعانا في مجريات الواقع ومتغيراته، لم يرفض الغرب ولا الولايات المتحدة ما جرى في تونس وإن تردد البعض في البداية أو أطلق تصريحات في غير محلها. ولكن سرعان ما عاد الجميع إلى برجماتيته واتفق الكل على الثورة التونسية والإطاحة برأس النظام الحاكم مع الإبقاء على بعض رموز مرحلته أو حزبه في الحكومتين الانتقاليتين اللتين تشكلتا في تونس. الأمور تتجه في مصر نحو هذا السيناريو بالذات مع الاختلاف في بعض التفاصيل غير الجوهرية. فمن الواضح أن الرئيس مبارك لن يغادر مصر حتى وإن غادرها أبناؤه وبعض كبار رجال الأعمال الذين سيطروا على الحزب الوطني ومجلس الشعب وخريطة البيزنس المصرية. ولذلك جاء اختيار الرئيس مبارك لرجلين عسكريين بالدرجة الأولى، ليتولى الأول (الفريق أحمد شفيق) مهام رئيس الحكومة والثاني (اللواء عمر سليمان) مهام نائب الرئيس. والمعروف أن الرئيس مبارك لم يفكر أصلا في اختيار نائب له طوال 28 عاما كاملة، لما لذلك من تاريخ مثير للقلق. وإذا أمعنا قليلا في الأمور سنجد أن الفريق أحمد شفيق ابن المؤسسة العسكرية، وأن اللواء عمر سليمان ابن المؤسسة أيضا إضافة إلى كونه مدير المخابرات والماسك بمفاتيح خزانة الملفات الخارجية الكبرى. الاثنان يمثلان ضمانة للرئيس حتى في حال تخليه عن الحكم. أما الثاني تحديدا فهو ضمانة المصالح الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية. الشارع التونسي يناضل إلى الآن ضد بقايا رموز النظام السابق. والمعارضة التونسية التي لم تكن تعرف أي شيء عن ثورة الشعب التونسي، وبالتالي لم تشارك في أي شيء، توجهت على الفور وبشكل مباشر نحو قصر الحكومة في منطقة القصبة لتتفاوض باسم من لم يفوضها على ما لا حق لها فيه. وتم الاتفاق على إعادة تشكيل الحكومة الانتقالية التي لم ترض الشارع التونسي إلى الآن. ولكن قادة المعارضة التونسية ضربوا كل مطالب الشارع التونسي عرض الحائط وتواطأوا مع رموز النظام السابق وبدأت الأجهزة الأمنية مجددا عمليات قمع لقوافل التحرير التي رفضت أوامر المعارضة والحكومة الانتقالية بإنهاء اعتصاماتها أمام قصر الحكومة وإعطاء تفويض لمن لم ترهم في الشارع عندما أطلق الرصاص عليها. لكن التونسيين يواصلون إلى الآن تظاهراتهم واعتصاماتهم وقوات الأمن من جانبها تواصل القمع.الثورة المصرية تتعرض لسيناريو مشابه تماما وإن اختلف أيضا بعض التفاصيل. فقد توجه قادة المعارضة العتيقة بكل أطيافها إلى الحوار مع نائب الرئيس عمر سليمان بمجرد أن أشار إليهم بذلك. ولكنهم خرجوا خائبين ليبدأ كل منهم في تقديم بريرات ساذجة وطفولي. ولا أحد إلى الآن يعرف لماذا ذهبوا وباسم من تحدثوا! وبالتالي قد يتحول قادة المعارضة المصرية العتيقة أو الشكلية إلى ورقة ضغط على الشارع المصري، وقد يتواطأوا لإنهاء كل شيء مقابل الحصول على حصص ومساحات بقدرهم وليس بقدر الحدث والأرواح التي بذلت من أجله. وقد يلعبوا دور يهوذا لصالح الحكومة الجديدة أو الانتقالية بالضغط على الشارع: إما أن يوافق على ما يتفاوضون عليه مع رموز الحكم السابق أو يتركوه لأجهزة الأمن الجديدة – القديمة لتنهشه كما في السابق. قد يتدارك المصريون في الشوارع كل تلك الأمور، وخاصة بعد أن رؤها بالعين المجردة تحدث في تونس وللثورة التونسية. وقد يقعوا في فخ الإغراءات قصيرة الأمد وتقع بينهم شقاقات تذهب بدماء الشهداء سدى. لكن المصريين الذين بدأوا في تشكيل لجان شعبية لمقاومة التخريب الذي تقوم به أجهزة بعينها، ومكافحة اللصوص والبلطجية والسجناء الذين أطلقت أجهزة بعينها سراحهم من السجون، وحماية متاحف وبنوك وثروات مصر من النهب الذي تقوم به عصابات مسلحة ومنظمة تعرف جيدا ما تفعله – المصريون الذين بدأوا كل ذلك قادرون على مواصلة خطوتهم التاريخية بعيدا عن التطرف والانتقام والإضرار بمصالح بلادهم داخليا وخارجيا. أي ببساطة المضي قدما فيما بدأوه بدون أي تراجع، لأن التراجع يعني عمليات سحل حقيقية وإراقة دماء وانتقام ستذكرها المصريون مئات السنين. فالنظام الذي سقط لم يكن بسيطا أو مسالما، بل على العكس، كان قويا ومدججا بالسلاح وعدوانيا وعدائيا. إن إرادة التصميم والتسامح وعدم الخلط بين القطيعة مع الماضي عمليا وبين الانتقام أو التجريح – كلها عناصر لبداية مشروع مصري حضاري يتناسب مع متغيرات القرن الواحد والعشرين ومع حجم مصر التاريخي إقليميا ودوليا ومع التضحيات التي بذلت من أجل التغيير الشامل. فكل نقطة دم سالت من مصري في قسم بوليس أو معتقل أو في الشارع أغلى بكثير من فكرة الانتقام أو التسليم لأحزاب كارتونية عتيقة أو الاستجابة لوعود معسولة طالب المصريون سنوات طويل بتحقيق نصفها ولم يسمع لهم أحد. جوانب من التجربة التونسيةبعد إعلان تشكيلة الحكومة الانتقالية الجديدة في تونس (يوم الخميس 27 يناير 2011) وفي أقل من 24 ساعة فقط، كشفت الأجهزة الأمنية التونسية مجددا عن وجه القسوة والعنف مع قوافل التحرير من الشباب الذين توافدوا من المدن التونسية واعتصموا طوال 6 أيام كاملة أمام قصر الحكومة في منطقة القصبة مطالبين على الدوام بإسقاط الحكومة الانتقالية وإبعاد كل الرموز التي شاركت في حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن على. في الصباح التالي (الجمعة 28 يناير 2011) لإعلان التشكيلة الجديدة، بدت الأجواء هادئة على الرغم من تحذيرات بعض المواطنين العادين من الهدوء الذي يسبق العاصفة. وكان من الواضح في الأيام الأخيرة أن قوات الشرطة بدأت تبتعد عن الناس بعد أن ظلت تتملقهم طوال أيام الثورة. حاولت بعض رموز المعارضة وأفراد من هيئات مختلفة فض اعتصام قوافل التحرير صباحا. ولكن المعتصمين رفضوا الانفضاض قبل تنفيذ مطالبهم بإبعاد رموز النظام السابق عن تشكيلة الحكومة الجديدة والإعلان عن ضمانات محددة تحافظ على مكتسبات الثورة التي قاموا بها في غياب كل الأحزاب والتنظيمات والقيادات المعارضة سواء في الداخل أو الخارج. قبل الوقت المحدد لبدء حظر التجول بعدة ساعات بدأت قوات الأمن وعشرات السيارات والباصات المدنية المليئة بقوات مكافحة الشغب تتوجه إلى منطقة القصبة نحو قصر الحكومة. وفي استعراض خارق للقوة، وتحت سمع وبصر بعض أفراد الجيش المنتشرين في الساحة أمام القصر قامت بالاعتداء على مئات المتظاهرين المعارضين المعتصمين (قوافل التحرير بالدرجة الأولى) مستخدمة العصي المطاطية والقنابل المسيلة للدموع. علما بأن هذه هي المرة الثالثة على التوالي خلال 6 أيام تستخدم قوات الأمن هذه الوسائل ضد قوافل التحرير المعتصمة في القصبة. وحسب شهود العيان، أصيب 5 اشخاص بجروح في تلك المواجهات، وتم إخلاء ساحة الحكومة ومطاردة المعتصمين. غير أن الاشتباكات تجددت لاحقا في شارع بورقيبة بين مجموعات من المتظاهرين ومجموعتين من قوات الأمن: مجموعة ترتدي الزي الرسمي وتحمل أسلحة مكافحة الشغب، ومجموعة من الشباب قوي البنية يرتدي إما معاطف سوداء طويلة أو جواكت جلدية سوداء قصيرة. وكانت المجموعة الأخيرة بالذات تمتلك حرية الحركة والحديث بالهواتف النقالة بينما تغطيها المجموعة الأولى التي ترتدي الزي الرسمي. وفي لحظات معدودة غطت سحابات الغاز المسيل للدموع شارع بورقيبة والأزقة والحواري المتفرعة منه. وبدأ يسمع صوت إطلاق القنابل المسيلة للدموع بشكل كثيف، بينما مروحية تحلق على ارتفاع منخفض وكأنها تبحث عن أحد. كان المواطنون التونسيون العزل يركضون تفاديا لأضرار الغازات التي تغطي الشارع، وهرع بعضهم وهم يصرخون ويغطون أعينهم إلى المطاعم التي كانت مفتوحة في هذه اللحظات أو يحتمون بمداخل الفنادق المنتشرة في الشارع. في هذه الأثناء توجهت مجموعة قناة "روسيا اليوم" المكونة من مراسل واثنين من المصورين ومعهم معدات التصوير نحو الاشتباكات وبدأت عملها بتصوير ما يحدث. تعالت أصوات المجموعة التي ترتدي الزي الأسود الرسمي: لماذا تصوروننا نحن، صوروهم هم!! وأثناء التصوير هجم أفراد من المجموعة التي يرتدى أعضاؤها المعاطف السوداء الطويلة والجواكت الجلدية القصيرة على مجموعة" روسيا اليوم" وبدأوا يوجهون لهم اللكمات والركلات ويحاولون اختطاف الكاميرات وهم يرددون: كل شيء بسببكم أنتم يا... تمكن أحد المصورين من إنقاذ كاميرته الكبيرة بينما لحقت بعض الأضرار بالكاميرا الصغيرة، ونال المصور الثاني نصيبه من اللكمات والركلات. استمرت المطاردة لعدة ثوان حتى تمكنت المجموعة من الاحتماء بمدخل فندق كارلتون في شارع بورقيبة. كانت الاشتباكات متواصلة بين المتظاهرين وبين هاتين المجموعتين اللتين استأسدتا بشكل ملفت للنظر. وكانت المروحية لا تزال تحلق رغم حلول الظلام وانقطاع التيار الكهربائي مؤقتا عن المكان. شاهدنا مطاردات عنيفة بين الشباب الصغار المتظاهرين وبين أصحاب المعاطف السوداء الذين كانوا يتعاملون بانتقام معهم. كان الشباب يفر إلى الأزقة والحواري بينما أصحاب المعاطف يستعرضون قوتهم في شكل يذكرنا بأفلام العصابات الأمريكية. وكانت عشرات السيارات التابعة لقوات مكافحة الشغب تمر تباعا في شارع بورقيبة إضافة إلى عشرات الباصات التي تحمل قوات مدججة بالأسلحة.في هذا الوقت تحديدا قامت الشرطة العسكرية بتفكيك خيام قوافل التحرير تحت حماية عناصر من الشرطة والجيش والقناصة تمركزت على أسطح البنايات في منطقة الأسواق المحيطة بساحة الحكومة. تم إغلاق شارع بورقيبة، وإغلاق ساحة الحكومة. بعض المارة بدأوا يرددون في غضب أن السيناريو نفسه يتكرر. وقال البعض الآخر إنهم ينتهزون ما يجري في مصر وانشغال وسائل الإعلام به، وبدأوا ينفذون خطتهم بقمع جديد بدلا عن حوار يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية. كل ذلك كان يجري بينما المعارضة التي وجدت لنفسها مساحة في التشكيلة الحكومية الجديدة لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم. علما بأن مصادر من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أكدت أن الوزير الأول محمد الغنوشي وعد بوقف إطلاق القنابل المسيلة للدموع وإطلاق سراح الموقوفين. إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث إطلاقا، وأصبحت وسائل الإعلام في تلك اللحظات هي العدو الأول لأصحاب المعاطف السوداء وقوات مكافحة الشغب. التجربة القيرغيزية في الانتخابات البرلمانيةقيرغيزيا أصبحت دولة غنية عن التعريف بعد "ثورة السوسن" الملونة في عام 2005 والأحداث التي رافقت هذه الثورة، والصراع الروسي الأمريكي عليها. بعد الإطاحة بالرئيس أوسكار أكاييف في تلك الثورة، تولى الحكم كورمانبيك باقييف لمدة 4 سنوات كاملة. ثم أجرى انتخابات رئاسية نجح فيها لفترة رئاسية ثانية. ولكن قيرغيزيا كانت طوال هذه السنوات في مهب الريح بالمعنى السياسي والاقتصادي. إذ اقترن الحكم القبلي بالفساد ومعاداة الأقليات. قامت أكثر من هبة راح ضحيتها قتلى وجرحى. ولكن في أبريل 2010 تمكنت السيدة روزا أوتونبايفا من الإطاحة بباقييف وطرده خارج البلاد. وأوتونبايفا سيدة سوفيتية قديمة قوية الشكيمة وشغلت أيضا منصب وزيرة خارجية قيرغيزيا. ما أتاح لها تكوين سمعة طيبة على المستوى الدولي والإقليمي. وفي يونيو 2010 اندلعت أحداث جنوب قيرغيزيا (في مدينتي أوش وجلال أباد) التي أودت بحياة المئات وشردت عشرات الآلاف. في ظل هذه اللوحة المعتمة والمثيرة للتساؤلات، تمكنت روزا أوتونبايفا من تحقيق خطوة تاريخية في غاية الأهمية والخطورة على المستويين الداخلي والإقليمي. فقد أوقفت العمل بقانون الطوارئ الذي فرض أثناء أحداث أوش وجلال أباد، وأجرت استفتاء لم تتمكن أي دولة أو منظمة دولية من التشكيك في نتائجه على دستور جديد كتب خلال شهرين وتحويل قيرغيزيا من دولة رئاسية – برلمانية إلى دولة برلمانية رئاسية. أبدت روسيا انزعاجها من هذه الخطوة بحجة أن هذا النظام لا يتناسب مع قيرغيزيا، وحسدتها (خوفا وقلقا) الدول المجاورة مثل أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان. وعلى الفور قامت بإجراء انتخابات برلمانية في 10 أكتوبر 2010 وسط حالة من الاستنفار بين جميع الدول المجاورة ووسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية. فالكل كان واثقا 100% من اندلاع أحداث دموية واسعة النطاق. قام بمراقبة الانتخابات البرلمانية القيرغيزية 850 مراقبا من 52 دولة، من بينهم مراقبون من مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية ورابطة الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، إضافة إلى مراقبين من السفارات الأجنبية. وكما نعرف أن قيرغيزيا مقسمة إلى 7 مناطق إدارية، فأضيف شرط النصف بالمئة إلى نسبة الخمسة بالمئة. أي يجب على كل حزب أن يحصل على 5% لدخول البرلمان. وأن يحصل على نصف بالمئة في كل منطقة من المناطق السبع. لم ير أحد في ذلك مساسا بالدستور أو إخلالا بالقوانين والتشريعات. كل ما في الأمر أن الدولة البرلمانية - الرئاسية يجب أن تضم برلمانا قويا قادرا على تمثيل أكبر قدر من سكان البلاد. وكانت المفاجأة التي شاهدنا فصولها في الفترة من 2 إلى 13 أكتوبر 2010. لم تقع أي أحداث لا قبل الانتخابات ولا بعدها. وشارك في هذه الانتخابات التاريخية 29 حزبا سياسيا من حوالي 150 حزبا هي إجمالي الأحزاب السياسية في قيرغيزيا. وكل ذلك على 120 مقعدا فقط. مع إغلاق مراكز الاقتراع ظهرت التوقعات التي لم تختلف كثيرا عما أعلنته اللجنة المركزية للانتخابات في قيرغيزيا يوم الاثنين 1 نوفمبر الحالي. وبحسب هذه النتائج دخلت 5 أحزاب البرلمان الجديد. ففاز حزب "أتا جورت" (الوطن) المعارض بالمركز الأول بحصوله على 8.47% من أصوات الناخبين (28 مقعدا). واحتل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يترأسه النائب الأول لرئيس الحكومة المؤقتة ألماظبيك أتامبايف المرتبة الثانية بحصوله على 7.83% من أصوات الناخبين (26 مقعدا). وجاء حزب "آر ناميس" (الكرامة) المعارض برئاسة رئيس الوزراء السابق فيليكس كولوف في المرتبة الثالثة بنسبة 7.57% (25 مقعدا). وحزب "ريسبوبليكا" (الجمهورية) المستقل برئاسة رجل الأعمال عمر بك بابانوف في المرتبة الرابعة بنسبة 6.93% (23 مقعدا). وحزب "أتا ميكين" (البلاد) بزعامة أحد رموز الحكومة المؤقتة أنذاك في المرتبة الخامسة بنسبة 5.49% (18 مقعدا).على خلاف كل التوقعات، لم تتعرض قيرغيزيا إلى أي هزات سياسية أو اقتصادية. الهدوء خيم على الشارع القيرغيزي وجرت المنافسة داخل أسوار البرلمان من أجل تشكيل التحالفات الضرورية اللازمة لاختيار رئيس الوزراء ورئيس البرلمان. وجرى ذلك بالفعل. المدهش أن حزبين معارضين دخلا البرلمان، إضافة إلى حزب مستقل يميل إلى المعارضة. لكن الأكثر إثارة للدهشة أن الحزب الذي احتل المرتبة الأولى هو حزب معارض وله شعبية ضخمة في جنوب قيرغيزيا. كل ذلك لم يمنع الحكومة المؤقتة من المضي قدما في خطوتها التاريخية وسط انتقادات الدول المجاورة التي تخشى أنظمتها السياسية من عدوى التجربة. انتقال قيرغيزيا من دولة رئاسية إلى برلمانية قد لا يكون هو جوهر الأمر، وإن كان في حد ذاته مؤشرا هاما له دلالاته السياسية والاجتماعية والتاريخية في حياة جمهورية سوفيتية سابقة يصعب توصيف نظام الحكم فيها. ولكن الأهم من كل ذلك هو كيف جرت الانتخابات في ظل احتقان وتوترات وتوقعات بالفشل واندلاع العنف؟! وكيف نجحت السيدة روزا أوتونبايفا في تحويل العنف والشغب والانقلابات المتوالية إلى منافسة مفتوحة وشفافة، ونقل الصراعات الدموية في الشوارع إلى حوار ديمقراطي داخل البرلمان؟!تساؤلات مشروعةلماذا أصر المجلس العسكري على تعديلات دستورية واستبعد تماما فكرة وضع دستور جديد؟ لماذا حاول المجلس العسكري إبعاد مبارك وأسرته عن دائرة الضوء وإصدار أوامر إلى وسائل الإعلام بالابتعاد عن هذا الموضوع؟ لماذا أمر المجلس العسكري وسائل الإعلام بالتهدئة وتحسين صورة الأجهزة الأمنية والشرطة؟ لماذا تسعى جهات معينة، بما فيها المجلس العسكري، إلى الإبقاء على رموز النظام السابق وعلى رأسها أحمد شفيق الذي لم يعد وجها مقبولا بعد التصريحات التي أدلى بها أثناء الثورة وبعدها؟ ما معنى التضييق على قادة ائتلاف الثورة، والسعي إلى تهميشهم والتقيل من شأنهم، وهم العنصر الرئيس في أي حوارات أو مفاوضات؟ ما معنى إفساح المجال أمام مظاهرات الشرطة وعناصر الأجهزة الأمنية، والإصرار على تطهيرهم دون اعتذارات رسمية وإجراء محاكمات علنية تبثها وسائل الإعلام؟ ما معنى سعي رموز النظام السابق للحوار مع المعارضة العتيقة والشكلية؟ ولماذا أمعن المجلس العسكري في إنهاء مسار الثورة، بينما غض الطرف عن خروج التظاهرات المطالبة بمطالب فئوية ونقابية، وترك الحبل على الغارب لمجموعات معينة في ميدان التحرير. علما بأن هذه المجموعات لا تنتمي لمن قاموا بالثورة؟ لماذا تقوم وسائل الإعلام الحكومية بتجييش الرأي العام ضد ما جرى في ميدان التحرير، واتهام شباب الثورة بتعطيل عجلة الإنتاج؟ما معنى أن تبدأ الولايات المتحدة الآن حديثها حول مساعداتها المادية للقوات المسلحة المصرية (مليار و300 مليون دولار سنويا). وما معنى أن تعلن وزيرة الخارجية الأمريكية أن واشنطن ستقدم لمصر مساعدات قدرها 150 مليون دولار؟

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل