المحتوى الرئيسى

تلفيق التهم بقلم : محمد يوسف جبارين

02/19 19:40

تلفيق التهم بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح) ..أم الفحم ..فلسطين تلفيق التهم ، هو أحد أبرز الأساليب التي تسعى بها الأجهزة القمعية ، الى المرور في خلال تجاويف البناء القانوني للدولة ، من أجل أن تبلغ أغراضها في الانتفاع بالقضاء ، في عملية انتاج للقهر ، بتسويغ لمبرراته وتمريره بالعنف على أعصاب الأبرياء الأحرار ، لمحاصرة نشاطهم ، وتطويق ارادتهم ، وكبح جماح الأمل في صدورهم ، عساها المناداة بالحرية تخبو ، والمطالبة بالعدالة تجثو ، وهذا هو العنف بذاته الذي ما زال يحقن المرارة في النفسية العربية ، وينتج قطيعة بينها وبين من يمارسون العنف عليها ، وهو ما جعل أسلوب التلفيق للتهم ، فالمقاضاة ، فالعقاب ، ارهاب دولة ، ينضاف في عصفه ، الى أشكال أخرى من العنف عانتها الجماهير طويلا ، فزادت في تمرمرها ، فتنامى قلقها على مصيرها ، فشب في أعماقها الحاح على ضرورة تنظيم صفوفها لتكون أكثر فاعلية وتأثيرا ، في مواجهة الصعاب التي تعيق نموها وتطورها . فالعنف في سيرورته في مجرى الزمن ، وبكل أشكاله ، استهدف غايات واضحة ومحددة مستخرجة من طموحات صهيونية ، الا أنه في حقيقته ، وعلى فظاعته ، لم يصل الى غاياته ، فعلى العكس من ذلك ، فلقد أنبه الى المخاطر ، وزاد في الالتفات الواعي الى ضرورة تعميق الوعي بالهوية الجماعية العربية ، وأسقط تصورات كانت ترى المساواة واقعا يمكن تحقيقه تحت ضغط الحركة الشعبية العربية التي تطالب بحقوقها ، وفضح زعامات مزيفة استروحت زيف النضال ، وظنته ييسر لها مكانة ، بها يتيسر لها امتلاء دائم في معدتها وأمعائها ، وانتفاخ في صورتها يتغذى عليه غرورها ، فلم يعد ينطلي الزيف على أحد . لقد أصبح المزيف مفضوحا بزيفه ، فلا تنفعه أمواله ، ولا نفوذه في المؤسسة الحاكمة ، تماما كما أنه لم يكن مستساغا ، ولن يكون معقولا توصيف ارهاب دولة ، باقامة عدل في تطبيق قانون ، فالقضاء قد قدم الدليل تلو الدليل ، على أنه الموظف دوما ، في دائرة القمع للأحرار الأبرياء من العرب . فهذا العنف الذي يضغط بقسوة على الجماهير مريدا لها أن تبدل في هويتها ، وأن تتأسرل ، قد ضاقت به هذه الجماهير ووعته على أنه حرفة تحترفها أجهزة المخابرات الاسرائيلية ، لتخدم بها أهدافا استراتيجية مستمدة من أيديولوجية عنصرية ، وفكر طامح الى الاستيلاء على الأرض واقامة السيادة اليهودية المطلقة عليها . فمن ذلك انحدر توصيف العرب بأنهم الأعداء ، وبأنهم مشكلة ديمغرافية . ومن هنا جاءت سهولة اطلاق النار عليهم ، فذبح الأعداء جزء من الأمن القومي الاسرائيلي ، وأما تلفيق التهم فقد كان الأكثر سهولة ، كضرورة من ضرورات مواجهة هؤلاء الأعداء ، أو على الأقل التقليل من خطورتهم . فالتلفيق للتهم آلية تقييد لحركة الوعي في الواقع العملي ، والحد من فاعلية أفرادها ، وعلى الأخص منهم قادتها ، وتسكين لنشاط مؤسساتها ، بدمغها بالشمع الأحمر ، وذلك اضعافا لقدرتها على تحريك الجماهير ، وهذا ما دعا الى استهداف قيادات حزبية و شعبية أفرزتها حركات سياسية شعبية . فكانت التهم ، فالمقاضاة ، فالاعتقال ، فاستنزاف المال ، والنفس والجهد والوقت . وهذا بعينه عدوان دولة على أفراد وعلى حزب وحركة ، وهذا بعينه صرف جهود كبيرة في بحث عن تركيع لم ولن يتم تحصيله في واقع ، وهذا بعينه استنزاف جهود كان الأولى بدولة تحترم نفسها أن تدفع بها الى التقدم والتطور ، بدلا من صرفها في القمع الواهم تحصيلا لتشويه في علاقة عربي بهويته العربية . وقد كانت التهم كلها ، وعلى النحو الذي تم تلفيقها عليه تحريضية ، وذات أبعاد ، لها من قوة الصياغة ، والمعاني ما يجعل تأثيرها في الفضاء العمومي كفيلا بتنشئة أجواء لافتة الى مضامين تلك التهم الملفقة ، ما أتاح للمؤسسة القمعية الاتجاه بالاعلام الى بناء رأي عام ، من اتهام ضاغط وداعم للتهم الملفقة في الفضاء العمومي اليهودي ، فحيث يتجه العربي ، يشعر بضغط جماهيري يهودي يدينه ويلاحقه ، ويضيق عليه في كل مسعى يسعى اليه ، وهذا بالاضافة الى أنه تسويغ للكراهية للعرب ، وتعميق لها ، بما يؤيدها من أمثلة ، حتى ولو أنها في حقيقتها كاذبه ، فانه في حقيقته تهيأة مناخ الموافقة والتأييد للقمع لهذا العربي ، وهو أسلوب ضد الحرية ، وضد حق الجماهير العربية في المواطنة والمساواة والحرية ، وما يلي ذلك من حقوق في بناء مؤسسات وحركات مؤثرة في تأصيل الهوية ، وفي الدفاع عن الحقوق ، وفي السعي الحثيث من أجل نوالها . وهذا بعض من كثير مما يعنيه تحقيق الردع الجماعي والفردي الذي يسعى بالعنف اليه خبراء العنف ، ومبدعو التلفيق للتهم ، الماهرون في بعث التوترات الدائمة في العلاقة بين الدولة وبين المواطنين العرب . ولتكن ما تكون صياغات التهم الملفقة ، ولتكن مضامينها بما بها من علاقات ملفقة ما تكون ، فهي في سياقها العدواني ترمي لانتاج مبررات القمع ، واستعماله في انتاج الردع ، على الرغم من أنه لن ينكسر ما لا يمكن كسره ، ولن ينحني أمام ريح في سرداب ، من اعتاد عليه شموخه أن لا ينحني أمام الأعاصير ، وسيبقى التلفيق هو التلفيق الذي ينكر أصله على الدوام ، لكن ذلك لا يعني أن من كان أصله في الحقد يمكن أن يكون له أصل في الصدق والعدل ، فمن لا أصل له في الحق ، فأصله كله في الباطل ، فما من صيغة تلفيقية لتهمة الا وكانت كاذبة أصلا وفصلا ، فمادتها من الكذب ، وبذاتها دالة على أنها لم تكن نتاجا لواقع ، وانما هي نتاج فكر ، قد أحالها كمحمول على واقع لا يحتمل أن يوصف بما هو ليس فيه . فثمة انفصال بين حقائق الواقع ، وبين ما يتم افتراضه من صفات وعلاقات متوهمة ، هي من خيال يفرط صاحبه في نزعته العدوانية ، وهو يحاول دوما ربط مصلحته بتلفيق لعلاقات يلبسها واقعا لم يعرف لها أصلا ولا فصلا في خلال حركته في الزمان . فشرط قيام التلفيق استدعاء الخيال لاجراء تحريف في حركة واقع كان ، من أجل اعادة هيكلة لصورة من ماض ، بتضمينها بعلاقات ومضامين حوار ، ما يجعل الصورة تتأهل لتغدو ملائمة لتكون بذات الصفات التي تلحق بها التهمة ، فتنطلي بما يها ، وكما هي ، على من يصدقها بما هي عليه ، وهذا بعينه اعادة انتاج أو رسم لعلاقات في داخل حزب ، أو حركة ، أو نشاط الفرد ، لتغدو جملة تلك العلاقات ، بالرسم من جديد مستوفية امكان الزعم بأنها هي جملة الحركة التي جرت في ذلك الواقع ، والتي تخالف القانون ، وتستدعي صياغة التهمة فالقضاء فالعقاب . وقد نستبين من القراءة في سجلات القضاء ، مما يتصل منها بملفات التهم الكاذبة التي استهدفت الأحرار من أبنا ء الأقلية العربية ، في مدى عقود من الزمن ، فندرك بأنه ما من رسم لتهمة الا واتفق مع الغاية من التلفيق ، وبأن هذا قد كان باب الكذب في كل تهمة ، وهو ما أتاح الصياغة لمضامين التهم التي أريد بها تعذيب هذا الحر أو ذاك . ونلاحظ من تفاصيل ديناميكية التلفيق ، وما استغرفته من الوقت والجهد ، بأن التلفيق كاستراتيجية هجومية ، قد استدعى قراءة مستمرة ومتبصرة لحركة الحوادث في الواقع ، وبذكاء نافذ قد أجاد الصياغة للاتهام والى حد جعل الكذب ينكر كونه كذبا . ولعل أكثر ما أغرى في اعتماد التلفيق للتهم كاستراتيجية تجمع بين الانتفاع بالقضاء واستعمال الاعلام وأدوات القمع لأغراض الردع ، هو الصعوبة لدى العربي المتهم في استحضار وقائع واقع قد مضى ، ليشهد على كذب ما يتم اتهامه به . ثم ان كون الواقع قد أصبح ماضيا هو ما أفسح المجال أمام اغراقه بما ليس فيه ، وعلى ما يجعل الزعم بخلو التهمة من الكذب مسألة سهلة ، وقد كان هذا الزعم دوما هو لب المرافعات الرامية الى اثبات التهمة في المحاكم ، من أجل تأهيل أدوات القمع الى دورها في الاضطهاد . ولم يكن في البحث عن الغموض ، لاشغال مساحته بكذب ، كماهية لقضية كاذبة ما يدل على جديد في تاريخ الاضطهاد للشعوب ، ولم تكن مؤسسة الأمن الاسرائيلية متفردة ، من دون غيرها ، في اكتشاف الكذب كوسيلة تدنو بها ، وبالكرباج ممن تريد أن تعاقبه وترهبه ، فقد يصح بأن هذا أحد الأساليب المستقاة من تاريخ الاستعمار ، وما أرهقت به الشعوب من محاكمات صورية . وصحيح أيضا بأنه منذ كان الكذب والكاذبون ، وأحد شروط قيام الكذب هو مساحة من الغموض في المعرفة بحقائق علاقات سائدة ، أو تكونت وتشكلت ومضت في الزمان ، فمن دونها لا يمكن لكذب أن ينسدل على واقع ، وذلك لأن تمام المعرفة والاحاطة بأمر تجعل الكذب بشأنه غير مستساغ ، وغير مقبول ، ويواجه بالشك ، فتزامن الدليل على الكذب مع الكذب نفسه يلغي التهافت على الكذب . فالمساحة الغامضة ، أو الضبابية ، أو المعرفة الغائبة ، أو اللامعرفة فرصة الكذب كي يتحسس مكانا ويتخذه فتكون امكانية نفاذه جائزة . وداخل المساحة الغامضة يكون استخراج الكذب كمضمون لتهمة تتركب ، وتتهيكل ، ويتم دمجها بعلاقات واقعية ، بحيث يصعب تمييز التحريف الذي تم ادخاله على تلك العلاقات ، وتبرز هنا المهارة في التلفيق ، والمقدرة على عقلنة التحريف والتهمة على حد سواء . وهذه الخصوصية لاستخراجات العنف ، وما يتوافق معها من آليات ، وما تدل عليه من رؤية استراتيجية ، قد تأصلت وانسحبت على الواقع ، حتى غدت هجومية ، تجيد جعل القضاء في خدمة السياسي ، وتبغي الرسم من جديد لعلاقات الأقلية العربية بذاتها ، بتطورها ، بحريتها ، بمقدساتها ، بتنظيماتها ، بهويتها . وهو ما يعني بأن الاتجاه الذاتي للأقلية العربية نحو ذاتها ، بما يعنيه ذلك من عمق التاريخ والثقافة واللغة والدين في وعيها ، وما له من عمق في تشكيل رباطها بأرض الرباط ، هو هذا بعينة المراد له أن لا يكون ماثلا وعميق الأثر في حركة هذه الأقلية القومية العربية ، وهذا مراد بذاته من منظور المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة ، وله اقتضاء هو تأسيس استراتيجية التشويه للهوية العربية ، فكيف ، ارهاب دولة ، يتعزز دوره بالتلفيق للتهم ، والتحريض ، والمضايقات حيث أمكن ذلك ، وبشتى السبل ، والقتل حين يتاح ويصبح ممكنا تبريره ، وبوسائل أخرى ، المراد بها جميعا الاسهام في اعادة الصياغة للهوية ، فالشخصية ، فحركة هذه الأقلية العربية ووعيها الذاتي ، بحيث تسهل السيطرة عليها ، ودمجها كجسم ضعيف خاضع ، قد شاهت هويته .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل