المحتوى الرئيسى

د. محمد الماضي يكتب: رسالتي إلى أبنائي الثوار

02/17 14:03

بدايةً وقبل كل شيء فإنني أعجز- مهما أوتيت من أدوات البيان- عن التعبير عن حقيقة مشاعري خلال الأيام القليلة الأخيرة، بل إنني قد توقفت تمامًا عن الكتابة والتعبير منذ يوم الجمعة الموافق 28 يناير، والذي أًُطلق عليه: "جمعة الغضب". فقد وجدت نفسي مدفوعًا بقوة هائلة في بحر الأحداث الثورية المباركة التي أخذت بتلابيبنا جميعًا لتقتلعنا من دائرة القول إلى دائرة الفعل، ومن الخوف والتردُّد إلى ساحة الشجاعة والإقدام، وإلى تحدِّي جحافل البطش وأدواته، ورغم أنني- وككثير غيري ممن هم في سني (أقترب الآن من الستين) أو أكبر قليلاً أو أصغر قليلاً- كنا ننظر إلى نداء شباب 25 يناير على "الفيس بوك" للنزول إلى الشارع في يوم عيد الشرطة للتعبير عن رفضهم لكل أشكال العنف والظلم والاستبداد الذي يمارسه النظام؛ كنا نعتبره حادثًا عابرًا وتسليةً، لو حدثت فسوف تمر سريعًا كغيرها من وسائل الاحتجاج، هذا إن لم يتم قمعها أصلاً وهي في المهد. ومن ثم فلم أُفكر أصلاً في المشاركة في مثل هذا النزول، ولكن ولحسن حظي فقد شاءت الأقدار أن أكون يوم 25 يناير في موعد مع طبيب الأسنان بالقرب من ميدان الجلاء، وأثناء خروجي لصلاة العصر فوجئت بهتافات المتظاهرين تجوب شارع التحرير من ناحية الدقي، وتقترب من ميدان الجلاء أمام فندق شيراتون القاهرة، فلم أملك نفسي من المسارعة لمراقبة الموقف، والذي كان مشهدًا رائعًا ومذهلاً!. لأنها ثورة الشعب..فلأول مرة في مصر تمضي مظاهرة في الشوارع والأمن يحرسها ولا يحاول الاقتراب منها، رغم وجود حشود هائلة من أفراده وآلياته ومدرَّعاته تستبق خط السير، وكان الشباب يهتفون هتافات متعددة، أقصاها سقوط الرئيس حسني مبارك، وكثير منها مطالب إصلاحية، ثم حاولوا الاستمرار نحو ميدان التحرير، بعد أن وقفوا في ميدان الجلاء بعض الوقت، وكأنهم لا يصدقون أنفسهم، والناس تشاهدهم وكأنهم ظاهرة استثنائية!. وقد قمت هنا بالتقاط عدة صور فوتوغرافية وفيديوهات من خلال تليفوني المحمول، ثم مضيت إلى صلاتي ومتابعة زيارة الطبيب، وكان الدور على زوجتي وابنتي، وأنا غير مصدق لما يحدث، وأن الموضوع قد دخل في الجد!. شباب التغيير..وقد أصبحت أنظر إلى هؤلاء الشباب الصغار على أنهم أبطال كبار وأساتذة عظام، ليس بسنهم ولكن بفعلهم وشجاعتهم وجرأتهم. وكنت على يقين بأن ما قاموا به إن لم يؤدِّ سوى إلى إزالة روح الخوف والتردد والسلبية، ويُطلق روح الجرأة والإقدام والإيجابية، نحو انتزاع حق الشعب لتكون عصمته بيده وليست بيد مجموعة من المستبدين المنتفعين العملاء، فإن ذلك لشيء عظيم يسطِّره لهم التاريخ بماء من ذهب!. إنني- ومنذ سنوات طوال- ظللت أُعلن رفضي لكل مظاهر ظلم النظام وجبروته، سواءٌ بالكتابة أو بالخطابة أو بالوقفات والمظاهرات المهنية المحدودة، وحتى بالتعليقات على المقالات في الجرائد الإلكترونية الوطنية والمعارضة، وكثير من ذلك مسجَّل وموجود، ولا أقول ذلك فخرًا ولا مباهاةً، ولكن أريد أن أقول بأن هؤلاء الشباب نزعوني من مجرد دائرة القول التي حبست نفسي فيها أنا وكثير غيري، إلى دائرة الفعل. شباب الفيس بوكهؤلاء الذين كنا ننظر إليهم على أنهم مجرد شباب غائب ومغيَّب، ضائع ومضيَّع، مستهتر وغير واعٍ، لا يعي قضايا أمته، ولا يعيش همومها، ويُخطَّط له أن يظل سادرًا في متاهات الإعلام المضلة، وشبكة الإنترنت المضيعة للوقت؛ حتى كدت أكتب مقالة قبل هذه الأحداث بأيام قليلة تسخر من شباب الإنترنت، وكنت أقصد بها أولاً أبنائي الذي كنت أنتقد كثيرًا جلوسهم الطويل أمام شاشة الكمبيوتر وبين صفحات الإنترنت!. وبعد أن حددت محاور هذه المقالة، وهممت بالبدء في الكتابة جاءني الردُّ قويًّا ومزلزلاً؛ فقد شاء الله عز وجل أن يجعل هذا النظام المستبدَّ العاتي، الذي تجذَّر فساده واستبداده سنينًا طويلة، أن تكون بداية نهايته على شباب الإنترنت، وبالأحرى شباب "الفيس بوك"!. شباب "الفيس بوك" يأكل منسأة النظاملقد قفز إلى ذهني مباشرةً مقارنةٌ مثيرةٌ بين شباب "الفيس بوك" هؤلاء وما حدث لسليمان عليه السلام، مع الفارق بالطبع. فقد مات سليمان عليه السلام، وظل متكئًا على عصاه عدة أيام، والبعض يقول عدة سنين، والجن لم يعلموا ذلك، ومن ثم ظلوا يعملون بدأبٍ وخوف ودون توانٍ؛ خوفًا من التعرُّض لعقاب سليمان عليه السلام، حتى كان أمر دابة الأرض التي سلَّطها الله عز وجل على العصا التي يتكئ عليها سليمان عليه السلام، فأخذت تأكل منها حتى أضعفتها وأوقعتها، فخرَّ سليمان عليه السلام من بعدها هاويًا على الأرض!. وهنا استغربت الجن وتعجبت، كيف ظلوا كل هذه السنين يعملون ويملؤهم الخوف وسليمان عليه السلام في الأصل ميت على كرسيه!! قال الله تعالى يصف هذه الحادثة: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ: 14). لقد كتبت تعليقًا بعد الانتخابات الأخيرة على من نادى في إحدى الصحف بجعل قانون الطوارئ إلى الأبد، يفيد بأن هذا النظام قد شاخ ومات، وأن أحد دلائل ذلك أنه يستند على عصا الطوارئ، ولقد بدأت دابة الأرض تأكلها.. وكان ذلك قبيل هذه الأحداث بما لا يزيد عن أسبوعين. أيها الشباب..كيف أحييكم وأنا أعترف- وأنا أستاذ الجامعة الذي ظل يعلم الكثيرين منكم- بأنكم الآن أصبحتم الأساتذة ونحن التلاميذ الذين نتعلم الآن منكم؟! فها قد جاء دوركم يا شباب مصر الأطهار الأنقياء الأتقياء المخلصين.. إنني ومنذ أول لحظة أصبحت مؤمنًا، بل موقنًا، بأن الله سوف ينصركم، ويكمل لكم النصر بإذنه ومن عنده وحده.. أتدرون لماذا؟! لأنكم اندفعتم بصدوركم العارية، وبأيديكم المسالمة، وبإرادتكم الفولاذية، وبانطلاقاتكم التلقائية، وببصيرتكم النافذة، وبوعيكم الثاقب، وبسلوككم الراقي، وبإصراركم الراسخ ضد أعتى نظام أمني، تترَّس طوال سنوات عمر الجيل الماضية خلف آلة بوليسية وعسكرية، يدعمه بها أسياده في الغرب و"إسرائيل"؛ لكبح الشعب، وشل إرادته، وتكبيل حريته، وتزييف وعيه؛ كي يظل يحقق لهم أعظم وأجل الخدمات، مقابل تحويل ثروة البلاد لحسابه هو وأسرته وحاشيته ومن حوله من المقربين والمنتفعين والحراس. ولكن ما لا يعلمه هؤلاء جميعًا أن كل قوى الأرض وأسلحتهم ووسائل بطشهم، لا يمكن أن تقوى على الوقوف أمام شباب طاهرٍ نقي، تسلَّح بالإيمان بالله، ثم عدالة وشرعية مطالبه وفقط.. فماذا كانت النتيجة؟! النتيجة هي ما رأيناه ونراه كل يوم من آيات بينات، ثمرة نضالكم يا شبابي ويا أحبابي، بل يا أساتذتي.. وقبل أن أحكي عن موقعة جمعة الغضب 28 يناير- والتي شاركت فيها بنفسي وأولادي، والتي انهارت فيها جحافل الأمن وتلاشت بل وتبخرت- أودُّ أن أُذكركم بشيء واحد ومهمّ، يجب أن تستحضروه دائمًا وتثقوا فيه، وهو ما أصبحت أنا شخصيًّا مؤمنًا به ومطمئنًا إليه تمامًا، ألا وهو: "أن الله عز وجل يمكر لكم ويرد عنكم كيد كل كائد، ومكر كل ماكر، يرده إلى نحره، ويجعل تدبيره تدميره". فهذه حقيقة يجب ألا تغيب عنا، ولست في حاجة الآن أن أدلِّل على صدقها بما يحدث كل يوم في أرض الواقع. إذن ما الذي يجب علينا الآن؟!أعتقد أنه علينا أن نركِّز جهدنا على الآتي:1- أن نظل نشغل أنفسنا بالعمل والأخذ بالأسباب، وأن نترك النتائج على الله، بعد أن نثق في تدبيره.2- ألا نستعجل حدوث النتائج؛ فكل شيء عنده بقدر، ويتم ذلك المقدور في الوقت المناسب وبالشكل المناسب.3- يجب ألا تفتر عزيمتنا وتوهن قوتنا، ولا أن ينفد وقود الثورة بداخلنا؛ فالبعض من أركان النظام الحالي لا يريدون أن يطلقوا عليها ثورة، بل يريدون أن يُطلقوا عليها فورة، والفورة هي مجرد شيء يطفو على السطح، ثم سرعان ما يخمد، تمامًا كما يفور الإناء باللبن عند غليانه، ويتناثر منه كميات هنا وهناك ثم سرعان ما يخمد، وهذا هو توصيفهم لما يحدث، وهو في الحقيقة شيء خطير، ونظرة لا تزال رهينة عقلية القرن الماضي وحقبة الاستبداد والاستعلاء، تلك التي سادت العقود الثلاثة الماضية.4- علينا ألا نلتفت إلى أي كلام يُقال، ولا إلى أي وُعودٍ تُطرح؛ فلقد سئمنا هذا الكلام وتلك الترهات والوعود، وإن أعظم ما في ثورتكم المباركة أنها ثورة الفعل، فلا يجب أن تُقابل إلا بأفعال، وتكون فورية.5- لتعلموا أن مطالبنا ليست طلاسم ولا ألغازًا مخفيةً يحار النظام في فهمها، بل هي واضحة وضوح الشمس، ومن أهمها إسقاط كل أركان وقواعد النظام الفاسد المستبد العميل، وإقامة نظام جديد ومختلف، يؤسس لحياة ديمقراطية سليمة، من خلالها يمكن لشباب الأمة الواعي ورجالها وشيوخها المخلصين أن يختاروا بأنفسهم وبمنتهى الحرية من يحكمهم ويمثلهم، ودون أية وصاية في ذلك من أحد، ويكون لديهم الصلاحية المطلقة لمحاسبته؛ بحيث يعمل لصالح الشعب، وليس بالوكالة أو يكون عميلاً لأعدائه.6- إن هذه المطالب أو تلك الحقوق ليست بدعًا في الأمم والشعوب، وليست شيئًا جديدًا غير مفهوم، وإنما هي حق مكفول ومعمول به في كل الدول الديمقراطية، وليس شعب مصر أقل شأنًا من هذه الدول وتلك الشعوب. وأخيرًا..فلقد أثبت شعبنا العظيم أنه لا يستحق فقط أن يعيش كما تعيش أفضل الشعوب الديمقراطية في العالم، بل إنه- بفضل الله- قد أصبح معلمًا وملهمًا لكل شعوب الأرض؛ كي تسترد كرامتها وعزتها، وتحافظ على مقدراتها لصالح أبنائها. والله على ما أقول شهيد..------- * أستاذ إدارة الإستراتيجية- كلية التجارة- جامعة القاهرةhttp://www.almohamady.com [email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل