المحتوى الرئيسى

د. شيرين أبو النجا تكتب: الدوشة اللي حاصلة دي

02/14 14:19

منذ يوم 25 يناير وقد تطوع حارس العمارة في الإسكندرية أن يبادرني بالقول بمجرد أن أدرك أنني على وشك المغادرة "بلاش تنزلي في الدوشة اللي حاصلة دي". ومنذ يوم 28 يناير حين وصلت إلى القاهرة تلقيت مكالمات- للأسف من طالباتي- تقول "عاملة إيه يا دكتور في الدوشة اللي حاصلة دي؟" وفيما بين 28 يناير وحتى 1 فبراير كنت أتلقى الكثير من التأنيب من أفراد عائلتي عبر مكالمات هاتفية مفادها نصائح كلاسيكية قديمة (أقدم من الأفلام الأبيض والأسود) تعبر عن الجزع وعدم الفهم وضرورة التنصل من "الدوشة اللي حاصلة دي"، ناهيك عن تطور النصائح بعد خطاب مبارك الأول، تطور كان مقترنا باتهامي بنكران الجميل وعدم القدرة على استيعاب الموقف. لا بأس من كل ذلك، فقد كان هذا هو موقف الكثيرين ممن نعرفهم، ومن عائلاتنا، كنت أنظر بعين الحسد لكل فتاة شجعتها والدتها على الخروج في تلك الآونة، حتى أن واحدة منهن- كادت تفقد عقلها يوم انقطاع كل الاتصالات- قالت "لو كل أم منعت أبنائها من الخروج من الذي سيبقى؟" كنت أتمنى لو ساندني أفراد عائلتي في تلك الفترة بدلا من الهيستيريا غير المفهومة وبدلا من إلحاح المكالمات التي تناقشني أيهما أفضل "بامية أم فاصوليا؟" لكن كان عزائي في أصدقائي (ليس كلهم بالطبع) وفي زوجي. كل ذلك يمكن أن يهون، فهم أناس في النهاية لم تكن لهم مواقف سياسية ولم يعلنوا تصريحات عنترية في وسائل الإعلام ضد "ميدان التحرير"، هم أناس اختاروا التسمر أمام شاشات التليفزيون والتعامل مع الحكايات الغرائبية التي تولت كافة المؤسسات إطلاقها عن "المتظاهرين" بداية من وجبة كنتاكي وانتهاء بوجود حزب حماس في الميدان. الكل كان يتلقى معلوماته من التليفزيون المصري "الفصيح" ومن الشائعات والفتاوى، بل إن بعضهم أراد أن يعيد الحياة إلى صورتها "الطبيعية" غصبا وقهرا اتباعا لما فرضته كافة المؤسسات في نهاية الأسبوع الثاني (جمعة الرحيل) وذلك طبقا لتوجيهات الحكومة البائدة بالطبع. مرة أخرى، وبالرغم من كل الدهشة والغيظ وأحيانا الغضب الذي تملكني تجاه كل هؤلاء المعارف والأقارب والزملاء إلا أنني لا يمكن أن ألومهم فقد درجوا على "المشى جنب الحيط" وتشربوا ثقافة سائدة عبر عقود طويلة لا يمكن زحزحتها في أسبوع أو اثنين. لكن ماذا نفعل حيال كل الوجوه الإعلامية التي غيرت رأيها في يوم وليلة؟ هل كان الطرد من الميدان كافيا؟ بالطبع كافيا لأن المسألة ليست مشاجرة على قارعة الطريق، بل هى مشاجرة على تضليل العقول، وقد كان الطرد من الميدان أكبر دليل على فهم المتظاهرين لحقيقة كل شخص وكل وجه اعلامي. إلا أن الاشكالية الاعلامية والمجتمعية لا تزال كائنة: فتلك الوجوه قادرة على التلون وعلى تقديم تبريرات ساذجة تظهرها في شكل الضحية. كيف سنتستقبل كل من تعاملوا بفهلوة يوم 27 يناير في كافة الفضائيات "المستقلة" (وصف آخر مضلل) وخرجوا يناشدون الشباب ألا يخربوا البلد، لأن السياحة هى المورد الرئيسي، والحوار هو المهم، ولابد من احترام الأب، وأكدوا أنهم بالطبع يستوعبون الشباب، حتى أن أحدهم قال أن الكل مثل أبنائه، وعلى الكبار التصرف معهم بحكمة. هكذا كانت النغمة موحدة: الشباب غاضب، مندفع، متهور، متحمس، بلا قيادة، ولذلك فهو ساذج وكلهم ما عدا قلة هم عناصر مندسة. يا للهول، 15 مليون عنصر مندس!! سخف ما بعده سخف، ونفاق مكشوف، وخيابة إعلامية. في اليوم الأخير، اليوم الرائع، قابلت الكثيرين (أن تقابل أحدا في ميدان التحرير وسط الملايين لابد أن يكون ذلك صدفة تعتمد على المدخل المستخدم) لاحظت أن العديد منهم يبادر بالقول "أنا هنا منذ يوم 25"، لا أعلق، لأنني ببساطة لم أسأل، فسؤال مثل هذا لا يصح مطلقا لأنه يشبه أسئلة "هل أنت صائم أم لا؟" كان الكل يود التأكيد أنه تواجد منذ البداية، حتى أن واحدة من هؤلاء قالت لي يوم 12 فبراير صباحا أثناء تنظيف الميدان "أنا هنا منذ يوم 24" وحقا أضحكتني، أضحكتني كثيرا... فالاعتصام الكامل بدأ يوم 28 يناير، إلا أنني اعتبرت ذلك التصريح دعابة من أجل الاحتفال. كل هؤلاء- ولا يمكن الجزم لأننا ضد محاكم التفتيش- لم يأخذوا المسألة بالجدية المطلوبة منذ البداية، فقط حينما أدركوا أن "الموضوع بجد" سارعوا بالانضمام  لتسجيل موقف (مثل أحدهم الذي كان مسئولا في الجامعة وعضو في لجنة السياسات) أو مارسوا الحق في "الفرجة" على ذلك الحدث العجيب، بالرغم من وصفهم لكل ما كان يحدث أنه ليس إلا دوشة! وعلى ذكر الفرجة، من ضمن الجموع التي ظهرت يوم السبت 12 فبراير، سمعت واحدة تقول لصديقتها "عايزين نشوف الثوار دول شكلهم إيه، هما فين بقى؟" تلك الرغبة في الفرجة التي دفعت الجموع التي لم تكن مشاركة إلى النزول لميدان التحرير يوم 11 فبراير مساء، فكان الشباب يسأل وحدات الجيش عن اتجاه ميدان التحرير! من حقهم الاحتفال ومن حقهم الفرجة ومن حقهم تذوق الكعكة لكن من حق الآخرين أن يسألوهم جميعا عن سبب غيابهم واستخفافهم بالأحداث من البداية. مجرد سؤال ليس إلا. 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل