المحتوى الرئيسى

مصر الجديدة وكلامها الجديد

02/12 20:02

عنوان المقال: مصر الجديدة وكلامها الجديدأمجد ناصر تكاثر الذين حاولوا ركوب موجة الثورة الشعبية العالية التي فجَّرها شباب مصر. معارضة رسمية دجَّنها الرائد المتقاعد صفوت الشريف عقودًا في حظيرة النظام، "حكماء" يبحثون عن أنصاف حلول، إسلاميون "محظورون" لم يصدقوا أنهم مدعوّن إلى مقابلة "نائب الرئيس"، شخصيات عامة ورجال أعمال يهرعون لمغادرة السفينة الجانحة بأطواق نجاة، إعلاميون ومحللون سياسيون لم يروا قبل يوم واحد من اندلاع الثورة بوارقها في الأفق.  ولأنه ليس للثورة الشعبية المصرية أب معلوم (من المذكورين أعلاه) فالجميع يسعى إلى تبنيها ووضعها تحت الوصاية، أو على الأقل هذا ما فعلوا في أيامها الأولى.سمعنا طوال أسبوعين من عمر الثورة أصوات الكثيرين ولكننا لم نسمع، بما يكفي، صوت مفجّري الثورة. أولئك الشبان الذين يتمترسون في ميدان التحرير حتى خروج "البطريرك" المتهالك من قصره المسيَّج بحرسه الجمهوري، المسكون بالعزلة المفزعة وأشباح النهايات. واضح أن الثورة المنتظرة منذ زمن طويل، الثورة التي تكوَّنت في رحم الشعب المصري الصابر في أطول عملية حَمْلٍ في التاريخ العربي المعاصر قد فاجأت الجميع بمن فيهم مفجّروها أنفسهم. آيات الحمل معروفة. كذلك آيات المخاض والولادة. رأينا طويلاً، آيات الحَمْل ولكننا لم نر آيات المخاض والولادة حتى تمَّ الوضعُ في رابعة النهار، تحت عدسات الكاميرا وأمام دهشة العالم.  "إنها الثورة إذن. الثورة ولا شيء غيرها هي ما كان يتخلّق في رحم الشعب المصري الصابر طوال هذا الوقت. كل صفات الثورة الشعبية التي عرفتها تواريخ الأمم والشعوب مجسّدة بهذا الوليد الفاتن البهيّ المقبل على حياة بحجم الأمل"ويا لهذا المولود المنتظر كم هو فاتن وبهيٌّ. مولود يستحق، فعلاً، كلَّ هذا الانتظار الطويل في ردهات تاريخ معتم. لكن هذا المولود الفاتن البهيّ طوِّق، منذ إطلالته الأولى على الحياة، بحشد من الآباء المزعومين. وكأي طفل حديث الولادة جاء مضمّخًا بالدم. تخبَّط في حبل السّرة. لم يحمل اسمًا، لكنه، سريعًا، راح يبلور ملامحه. يمسح الدم عن جسده. يقطع حبل السّرة. يشبُّ عن الطوق. يتخذ لنفسه اسمًا لا يليق إلا به: "الثورة". الشعب الصابرإنها الثورة إذن. الثورة ولا شيء غيرها هي ما كان يتخلّق في رحم الشعب المصري الصابر طوال هذا الوقت. كل صفات الثورة الشعبية التي عرفتها تواريخ الأمم والشعوب مجسّدة بهذا الوليد الفاتن البهيّ المقبل على حياة بحجم الأمل. وها هو "يتحدث عن نفسه" بحركة الجسد الحيّ، الفتيّ، المقاوم، وليس بلغة من أدمنوا التلعثم أمام جبروت الفرعون. وبعد أن تكلم الجسد بحركته الحيوية، بتموّج أعضائه، بنفضه ما علق من آثار الولادة، عليه الآن أن يتكلم بلسانه هو. بلغته الجديدة التي لا بدَّ أن يصاحبها بعض التعثّر في البداية إلى أن ينحت مفرداته ويسكّ قاموسه ويطلق لسانه.                              ***كانت الفضائيات العربية والأجنبية التي تسلّط كاميراتها وميكروفوناتها على "ميدان التحرير" تلتقط من تعرف. هناك وجوه تعرفها وتألفها يسهل الوصول إليها هي التي سمعناها في البداية، ثم رحنا نسمع بخفوت أصوات الشبان الذين فجروا الثورة وجرّوا وراءهم مجتمعًا كاملاً يرسف في الأغلال. كان تعثّر مفجري الثورة في الكلام طبيعيًّا. فهم لم يعتادوا الكلام أمام حشود كبيرة، وربما لم يعتادوا الكلام أصلا في ظلال الصمت الطويل الذي فرضه النظام على الكلام، أو بالأحرى على هذا النوع من الكلام. المصريون بطبيعتهم متكلمون. هناك سيولة طبيعية للكلام على ألسنتهم. إنهم يأنسون للكلام ويعتبرونه من نوافل حياتهم اليومية ويستعينون به على ضنك العيش وانسداد الآفاق. لهذا السبب يلعب المقهى في حياتهم دورًا لا مثيل له، على الأغلب، عند شعب عربي آخر. فالمقهى، في الأصل، صالة للكلام.  لكن كلامًا عن كلام يختلف. فهناك كلام لا يقال عن واقع الحال، أو أنه يقال على نحو موارب. فيه الكثير من مفردات الصبر. القدرية. ولكن فيه أيضا سخرية مرّة. اليوم تفجّر سيل الكلام المحبوس مصحوبًا بالفعل، بل العكس. الفعل هو الذي رفع الختم عن الكلام. هكذا رأينا الشبان يخرجون من حالة "الخفاء" إلى حالة "التجلي"، أو بتعبير أحد مفجرّي الانتفاضة التي تحولت إلى ثورة كاملة: الخروج من وراء الكيبورد إلى الشارع.  أكثر جذريةلا يشبه كلام شبان الانتفاضة المصرية مثيله عند السياسيين المخضرمين. إنه أقل بلاغة. أكثر مباشرة، ناهيك عن كونه أكثر جذرية. وتلك خصيصة شبابية بامتياز. كلام مقتضب. مباشر. بسيط. واع. جذري. بدأ كلام الشبان عاليًّا منذ البداية.  "لا يشبه كلام شبان الانتفاضة المصرية مثيله عند السياسيين المخضرمين. إنه أقل بلاغة. أكثر مباشرة، ناهيك عن كونه أكثر جذرية. وتلك خصيصة شبابية بامتياز. كلام مقتضب. مباشر. بسيط. واع. جذري. بدأ كلام الشبان عاليًّا منذ البداية"لم يبدأ من طلب معيشي رغم أن الوضع المعيشي ضاغط في الحياة المصرية وأساسي في تحركات الجموع. ذهب الكلام إلى جذر الخلل: النظام. ضرَبَ على جذر الألم والمعاناة، لا على الحافة، لا على الأطراف. الضرب على الجذر مباشرة، فهناك يكمن موضع الخلل. لقد جرَّب السابقون أنواعًا مختلفة من النضال ضد النظام واستنهاض الجموع، لكنها (لأسباب ليس هذا مجالها) لم تنجح. كان النظام قد جرَّف الحياة السياسية تمامًا، بل جرَّف الحياة نفسها. أقصد فاعليتها، زخمها، نبضها، لكنه لم ينتبه إلى أن أشكالاً جديدة من الحياة تدب في أطراف جسد ظنه غير قادر على الحركة. الحياة دبَّت في الموضع الذي لم يوله النظام اهتمامًا: الشباب. ظنهم "عيال الفيس بوك"، "عيال إنترنت"، مهوسي كرة قدم، متحزّبين لمغنين تافهين (أحدهم جاء إلى ميدان التحرير باحثًا عن مسرح جديد للشهرة فطرد شرَّ طردة). هذه الغفلة عما يتخلَّق في صفوف "العيال" كانت قاتلة. فمن بين هؤلاء "العيال" سيطلع مفجرو الثورة، ورافعو بيارقها عالية، شهداؤها وجنودها المجهولون الذين تصدوا بصدورهم لبنادق قوات الأمن ومركباتهم التي عملت بهم قتلاً ودعسًا.من الصعب القول كيف انطلقت الشرارة ومتى ولكن هناك ما يشبه الإجماع على أن القتل الوحشي للشاب السكندري خالد سعيد (بوعزيزي مصر) هو البداية الأولى. فعلى صفحة "الفيس بوك" التي أدارها الناشط وائل غنيم بعنوان "كلنا خالد سعيد" اجتمع حشد شبابي هائل. أكثر من نصف مليون شاب تدفقوا على الصفحة في أيامها الأولى وأعلنوا الشاب السكندري "شهيد الطوارئ". هكذا ذهب الشباب إلى واحد من أسباب "ثورة الغضب": قانون الطوارئ الذي مكَّن نظام حسني مبارك من شلّ الحياة المصرية وترويع المحتجين والمعارضين.  طرق التواصل الجديدةراجعت صفحات ومواقع تناولت تلك الجريمة المروعة في حينها ووجدت كل مطالع الغضب اللاهب الذي تشهده مصر اليوم محتشدة هناك بالكلمة والصورة. كلام المواقع والصفحات الذي يتناول وضعًا مصريا عاما يختلف في مفرداته وخطابه عما هو عليه في "أدبيات" المعارضة التي تمتلك منابر إعلامية رسمية.  "لم يعد "التنظيم الثوري" هو طليعة الحركة الثورية كما نعرفه في الثورات الكلاسيكية. "الطليعة الثورية" تبدو هنا "افتراضية". المنتسبون إليها لا يعرف بعضهم بعضًا بالضرورة"إنه ابن طرق التواصل الاجتماعية الجديدة. وهذه صار لها معجمها الخاص المستمد مما يسمى "العالم الافتراضي" ومصطلحاته. ليس "كلام" تلك الشبكات الاجتماعية هو المختلف في مباشرته، عاميته، اقتضابه، فقط، بل أشكال التنظيم كذلك.لم يعد "التنظيم الثوري" هو طليعة الحركة الثورية كما نعرفه في الثورات الكلاسيكية. "الطليعة الثورية" تبدو هنا "افتراضية". المنتسبون إليها لا يعرف بعضهم بعضًا بالضرورة. لا يلتقون في "خلايا حزبية". لا مركزية في "هيكلهم التنظيمي". ليست هناك "أدبيات" تثقيف حزبية موحدة. هذا، بالطبع، إلى جانب ما وفرته تلك الشبكات والمواقع الاجتماعية من منابر إعلامية بديلة في ظل تحجّر الإعلام الرسمي (بشقيه الحكومي والمعارض) وانغلاقه على نخبة محددة ومحدودة.                         ***حرصت على متابعة الأصوات الجديدة الطالعة من "ميدان التحرير". ثمة ملامح لقيادات شابة قادمة قادرة على تجديد الخطاب السياسي المصري وملهمة على الصعيد العربي. فقد لفت نظري من بين متحدثي "الميدان" الشبان أسماء مثل: زياد العليمي، أسماء محفوظ، نوارة نجم، ناصر عبد الحميد، مصطفى شوقي، سالي توما، وائل غنيم. وقد بدا هؤلاء ممثلين لوعي جديد. لمصر جديدة غير تلك التي عرفتها في عهد حسني مبارك. العهد الذي طبعه بطابعه. بشخصه. بصورته ومثاله. خمول. انغلاق. فساد قياسي. تراجع مريع في المبادرات الفردية والجماعية. هناك مصر أخرى تولد من رحم انتظار ومعاناة وصبر وأمل. هذه المصر ولدت فعلا. الشيء المهم أن الختم الذي ضربه النظام على الكلام والوعي والشعور بالذات المصرية وموقعها حيال العالم قد رُفِعَ نهائيًّا. هناك مصر جديدة. وستطوي معها حقبة مبارك غير المباركة. علينا أن نتهيأ لاستقبال مصر جديدة حُبستْ طويلا في القمقم. ومع مصر الجديدة هذه لغة وخيال وإبداع وحركة جديدة كذلك.

نرشح لك

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل