المحتوى الرئيسى

صُُنْ لحمك يا وطن

02/11 19:32

فى تلك الدقيقة التى مرت بين طرق الباب وفتحه، استعرض فى ذهنه الخطوط العريضة لحياته كلها، الفقر أبرز تلك الخطوط، بيته المتواضع ورائحة الفقر المميزة، يظنون أنها قلة نظافة والحقيقة أنها رائحة تفرزها الأجساد الجائعة، صار خبيرا بها منذ كانت تفوح من جسد أمه، حينما تمنحهم طعامها وتبيت بلا عشاء زاعمة أنها ليست جائعة، الحقيقة أنه كان يعرف الحقيقة لكنه لم يحاول- ولو لمرة واحدة- أن يرد إليها الطعام، لا يذكر ذلك الآن بمرارة فالصبر يتعلمونه مع المشى، بعد أن كبر قليلا تركز حلمه فى أشياء صغيرة: أن تختفى رائحة الجوع من جسد أمه، يرى ابتسامتها النادرة حين يبتاع لها هدية صغيرة، أن تستمر الحياة بلا خسائر جسيمة. كان طالباً مجداً فى حدود ظروفه البائسة، أفلح فى الالتحاق بكلية التجارة، عمل أعمالا متقطعة أثناء دراسته، وحينما تخرج وبدأ رحلة البحث عن العمل وسط مئات الآلاف ممن يشاركونه نفس الظروف، أدرك بمرونة اكتسبها من درايته بالحياة أنه يجب ألا يتعلق بسراب الوظيفة. مندوب للمبيعات، تلك هى الوظيفة التى لا تكون مصريا حقيقيا ما لم تعمل بها فى فترة من حياتك، ليته تعلم حرفة كالسباكة أو النقاشة لكن أباه كان يراوده حلم وهو أن يرى ابنه موظفا، من حسن حظه أنه لم يكن خجولا وإلا لما استطاع أن يطرق أبواب تلك البيوت التى يتردد عليها عالما بأنه يقتحم حرمتها ويضايقهم، ليعرض منتجات رديئة بأسعار متدنية متحملا ردود أفعال متوقعة لرجل استيقظ عنوة على جرس باب لحوح ليجد أمامه شابا يعرض عليه مسحوق تنظيف لا حاجة له به، سهل جدا أن تتوقع رد فعل هذا الرجل. الشكوى ليست من حقه، سواء أوصد الباب فى وجهه دون كلمة واحدة، أو سمع توبيخا أو نصيحة بالعمل الجاد، وكأن ذلك بمقدوره، أو نظرة استخفاف واستهانة اعتاد عليها، لم يفكر قط فى مصارحتهم بشهادته الجامعية، والحقيقة أنه يتعمد إخفاءها، لا معنى للتظاهر بتفوق اجتماعى لا يتحقق على أرض الواقع. مهنته تستدعى الثبات والجلد السميك ومحاولة إقناع الزبون بشراء شىء لا يريده، تلك هى الوظيفة الوحيدة الممكنة لكيلا يموت جوعا. كانت عدة دقائق قد مضت منذ طرق الباب دون استجابة، لكن اليأس لم يكن أيضا من خصاله ولذلك فقد طرقه فى إلحاح، ووقتها فقط استمع إلى صوت خطوات ثقيلة مقبلة، يأخذ وضع الاستعداد، يتوقع كل شىء، جميع الإهانات واردة فقد جاء فى موعد نوم الظهيرة، لكنه لا يملك ترف اختيار المواعيد الملائمة للآخرين وإلا ضاع نصف يومه، فليجرب حظه، ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث له؟ العبارات الجارحة اعتادها فلم تعد تثيره أو تؤلمه، وهب أن صاحب المنزل طرده أو صفق الباب فى وجهه فالجوع أشد مرارة. وانفتح الباب عن وجه رجل عجوز تشيع الطيبة من ملامحه، سأله فى صوت هادئ: خير يا بنى؟ قال مستبشرا وقد أحس بالراحة لدى رؤية الملامح الطيبة، قال فى طلاقة اكتسبها من آلاف المواقف المماثلة: السلام عليكم يا حاج، أنا مندوب شركة منظفات تعرض عرضا خاصاً لمنظفات، الثلاتة بسعر اتنين، تخفيض كبير وحضرتك ممكن تجرب بنفسك، وعندنا كمان هدية إذا اشتريت العبوة الكبيرة. رمقه الرجل العجوز فى صمت ثم قال له فى حنان: لا حول ولا قوة إلا بالله، وماله يا بنى، حاضر، من عنيا الاتنين وفتش فى جيب الروب الصوفى الذى يرتديه ثم دس فى كفه ورقة مالية، مصرا ألا يأخذ البضاعة. كل سنه وأنت طيب يا بنى، مع السلامة يا حبيبى. وبينما كان يغلق الباب سمعه يردد. -لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله. انغلق الباب فى وجهه، إلا انه لم ينصرف، وقف يحدق فى الباب المغلق لبرهة ويحملق فى الورقة المالية برهة، توقف الزمان بالنسبة إليه، وكان صوت العجوز يتردد باستمرار فى أذنيه: لا حول ولا قوة إلا بالله، فكر أن يطرق الجرس ليرد إليه الورقة المالية قائلا له إنه ليس شحاذا، ولأول مرة يرغب فى أن يصارحه بحقيقة شهادته الجامعية إلا أنه لم يجد الشجاعة الكافية ليفعل كل ذلك، ثم إن الوقت لم يمهله أيضا فقد سمع صوت أقدام تهبط الدرج فمضى هو الآخر يجر أقداما متثاقلة خارجا من المنزل، وكانت رائحة جسد أمه الجائعة تفوح طيلة الطريق!!. [email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل