المحتوى الرئيسى

مصر منورة

02/11 18:33

حكاية حدثت قبل ٢٥ يناير بعامين فى الفندق الفخم ذى الخمس نجوم المطل على النيل، حيث كنا نقيم، ندخل أنا وزميلى محملين بكتب اشتريناها من إحدى دور النشر يرافقنا شاب مصرى يعمل بالدار ذاتها يحمل معنا بقية الكتب. بعد عبورنا ممر التفتيش، يقف الحراس لتفتيشه. وقفت أنا وزميلى نتحدث ريثما يأتى صديقنا، استغربنا وقوفه الذى طال، واقتربنا لمعرفة ما يحدث. كان الحراس يمنعونه من الدخول وهو ينظر إليهم ولا يناقش بل يطلب منهم السماح له بترك الكتب فقط. تدخلنا.. نريد أن نعرف سبب المنع، قالوا لنا: أنتم تفضلوا، لكنه لن يدخل. سألناهم: لماذا؟ قالوا: ممنوع أن يدخل لأنه من خارج الفندق. سألناهم: هو صديقنا، هل تمنعون زيارات الأصدقاء؟ أهو فندق أم حبس؟ وبعد نقاش بسيط: بإمكانه الدخول بشروط. أولها أن يعلق هذه البطاقة على صدره. وسلموه بطاقة بدت كأنها تعنى شيئا سخيفا لا أعلم ماهيته ولم أفهم تفسير ما يحدث أو أنى فهمت ولم أود تصديق ما فهمته ولم لا نعلق نحن أيضاً هذه البطاقات؟ يا فندم كما قلنا لكم، لأنكم نزلاء وهو من خارج الفندق، وكيف علمت بذلك وأنت لم ترنا سوى الآن.. هل كُتبت على جبيننا كلمة (نزلاء)؟ جادلناه بصوت مرتفع وانهال عليه زميلى بالصراخ لدرجة أن كل من بالبهو وقف ساكناً: تمنع إنساناً من دخول فندق لمجرد أن مظهره لا يعجبك.. لمجرد أنه بسيط لا يرتدى الـ(سينييه)؟! خرج عدد من موظفى الاستقبال يطلبون من زميلى أن يخفت صوته ويهدّئ روعه ويرجوننا أنه لا داعى لكل هذه الجلبة. وسط ذلك التفتُّ للشاب أحسبه مشاركا بالمهزلة فرأيته يرجونى أن نتوقف ويقول: معلهش مش مشكلة.. مش مشكلة ليه؟ إنت ابن البلد، إنت المفروض اللى تدخل واحنا اللى نطلع.. ماجراش حاجة. لو كنت أحد أثرياء الخليج أو كنت من أصحاب الأطيان والأموال هل كانوا سيطردونك أيضاً؟ المفروض إنك إنت اللى تدافع عن نفسك مو احنا.. هذه بلدك. وكنت أكرر عليه: هذا بلدك، وتمر على مسمعه كلمة (بلدك) دون أن تهزه فينتفض لكرامته أو تعنى له شيئا له علاقة بإنسانيته. كان لا يعيها أو كان يعيها أكثر منى ويعى الموقف ويسخر بداخله منى، كونى أتشدق بشعارات الوهم الساذجة: «الإنسان فى بلده ملك». لكننا فى النهاية نحيا عبيدا فى أوطاننا، هو ممنوع من دخول الفندق الفخم بحجة فقره، وبقيتنا ممنوعون من أشياء لا حصر لها بحجة أننا مواطنون لا ننتمى للطبقة الحاكمة. كررت عبارة (هذا بلدك) حتى انتابنى شعور بأنى أكررها على نفسى وأسمعها للمرة الأولى، ثم انتابتنى رغبة غريبة بتعريف كلمة (بلدك). كيف أعرفها؟ وهل ألتزم بدورى بما تحمله عبارة (هذا بلدى) حين أكون بحضن وطنى أم أنى فى الحقيقة أتغاضى مثله لأنى أعرف اللعبة وأعرف المعادلة؟.. الثمن الرخيص لأى مواطن عربى داخل بلده، طبعا لم نتوقف حتى خرج أحد مديرى الفندق ليعتذر لنا فقال زميلى: لا تعتذر لنا، أريدك أن تعتذر لصديقى وأن تأتى بمدير الفندق ليعتذر له أيضاً. وأقدم الكل على الاعتذار للمواطن المصرى، وأعرف أنهم ما فعلوا ذلك إلا لإنهاء الحكاية. انتهت الحكاية بالبهو، لكنها لن تنتهى من ذاكرتى أبداً ولن تنتهى ملايين الحكايات المماثلة من ذاكرة أصحابها المواطنين الذين أصبحوا أغراباً داخل أوطانهم. أحسست بأوجاع جديدة لم أدركها من قبل. شعرت برغبة فى البكاء. كرهت الثورة الغادرة. فهمت لِمَ يترحم الكثيرون على عهد الملكية. أحسست ببشاعة وألم الطبقية التى صنعتها ثورة من أهم مبادئها النظرية القضاء على الطبقية والإقطاع، كان لابد أن تندلع ثورة جديدة تأخذ حق ذلك الصديق المصرى البسيط. ثورتنا تبكينى كل يوم وتفرحنى كل يوم. هل قلت ثورتنا؟ لما تبدو ثورة مصر وكأنها ثورة العرب جميعاً؟ لما تبدو وكأنها من حقنا جميعاً؟ لأن كل شىء بدأ من مصر. وحين قصدوا تعتيم الحياة العربية وقمع مجتمعاتها بدأوا من مصر، انهار المجتمع المصرى وانهارت الحياة الفكرية وضاعت الطبقة الوسطى وقضى على الليبرالية المصرية المعروفة فراح كل أمل عربى بإمكانية الحياة من جديد. فهل تبشرنا تظاهرات ميدان التحرير بعودة مصر التنوير عما قريب؟ فى مقال لى عن الحب تحت عنوان (إن جئتك أصرح عن حبى) كتبت سيدة تعليقاً مأساوياً ساخراً لا أنساه عنونته بـ(والنبى انت فاضية ورايقة) تقول: طيب ياستى ألف شكر، بس تعالى زورينا نحن نساء العشوائيات ورجّالتنا مش لاقية تأكلنا وبنشرب من المجارى. طيب هاقول له إزاى أنا بحبه ووجع الكلى هيموتنى والفيروس سى واكل كبدى. أحسن تتبرعى لنا بماسورة مياه ولا بمستشفى، ربنا يخليكِ. كان لابد أن تندلع ثورة تعيد الحق للجميع. تعيد لنا مصر التى سحرتنا وشكلت سيلا طويلا من أفكار نملكها عن الحرية وعن استحالة العيش دون مسألة مهمة هى الكرامة. لابد أن تعود مصر، فتكوين الثوار الجدد لا يحوى حقداً طبقياً ولا يخطط للانتقام. ثورة غريبة على الشارع العربى، تفاجئ الجميع. فلا تعرف المقايضات ولا تؤمن بخطابات الأوهام، وليست تمثل جهات حزبية ولا سياسية. هى ببساطة ثورة الإنسانية التى سئمت الحياة غير الآدمية. اختار النور أن يبدأ من المكان الذى انتهى فيه. من القاهرة صدق من سماها القاهرة.. قهرت كل أمل مفقود وكل بؤس ويأس وكل حلم مستحيل، حلمت اليوم أنى مصرية أقف بينكم وألوّح: تحيا الحرية والكرامة والإرادة الشعبية. (آدى مصر يا للى شككتم فى مصر.. يا للى أفتيتوا الفتاوى بحقها مالهاش حصر). أحمد فؤاد نجم [email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل