المحتوى الرئيسى

> العنف يحتاج إلي التبرير والسلطة إلي المشروعية

02/10 11:23

كثيرا ما نري الأشياء علي غير حقيقتها لأننا حسب تأكيد برجسون نكتفي بقراءة العنوان فقط ، وهذا بالضبط ما تستشهد به الفيلسوفة الألمانية اليهودية "حنة آرندت" في كتابها العلامة "في العنف"، إذ تقول:"إن أدوات العنف قد تطورت تقنيا إلي درجة لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرر استخدامها حاليا في الصراعات المسلحة، من هنا نجد ان الحروب التي كانت الحكم النهائي في الصراعات الدولية قد فقدت مجدها الباهر كله تقريبا " . إن مكمن مشكلة العنف حسب أرندت هو في النظر إلي العنف باعتباره : " لا شيء أكثر من التجلي الأكثر بروزا للسلطة "، كل سياسة إنما هي صراع من أجل السلطة، والعنف إنما هو أقصي درجات السلطة، وهو ما ردده " ماكس فيبر" بالنسبة للدولة بوصفها :"سلطة للناس علي الناس تقام علي أساس أدوات العنف المشروع "، إن مماهاة السلطة السياسية مع العنف أمر لا يكون له معني، إلا إذا اعتبرنا مع ماركس أن الدولة تشكل أداة قمع تمتلكها الطبقة المسيطرة، وبغض النظر فإن العنف بوصفه التجلي الأكثر بروزا للسلطة ينحدر من الفكر السياسي الكلاسيكي أو التصور القديم للسلطة المطلقة الذي واكب صعود سلطة الأمة الدولة في أوروبا، وكان "جان بودان" أول الناطقين بها في القرن السادس عشر ، و"توماس هوبز" في القرن السابع عشر، كما أنها تتطابق مع المصطلحات المستخدمة منذ العصور الإغريقية القديمة لتعريف أشكال الحكم بأنها حكم الإنسان للإنسان، أو حكم الفرد أو القلة (الأوليجاركية) عند السلطة الملكية، أو حكم النخبة أو الكثرة عند الارستقراطية والديمقراطية. تقول "أرندت": إن واحدا من أكثر التمييزات وضوحا بين السلطة والعنف يكمن في أن السلطة قد ارتكزت علي الدوام إلي العدد، أما العنف فإنه إلي حد ما يكون قادرا علي تدبير أمره مستغنيا عن العدد، لأنه يستند إلي الأدوات"(أدوات القمع)، إن الشكل الأكثر تطرفا للسلطة هو ذاك الذي يعبر عنه شعار: "الجميع ضد الواحد" ، أما الشكل الأكثر تطرفا للعنف فهو الذي يعبر عنه شعار"الواحد ضد الجميع"، وهذا الأخير لا يكون ممكنا من دون اللجوء إلي أدوات القمع"، ولم يحدث أبدا لحكومة أن وطدت سلطتها علي أساس أدوات العنف وحدها، حتي الحاكم الديكتاتوري الشمولي، الذي يعتمد علي ممارسة التعذيب كوسيلة أساسية للحكم، يحتاج إلي أسس للسلطة كالبوليس السري وشبكة المخبرين الملحقين به ". إن السلطة تكمن في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر، لأن العنف بطبيعته يتعلق بالأدوات، وهو ككل وسيلة يظل علي الدوام بحاجة إلي تبرير يأتيه من طرف آخر، لا يمكنه أبدا أن يكون في جوهر أي شيء. أما السلطة فإنها لا تحتاج إلي تبرير، وإنما إلي المشروعية. السلطة تنبثق في كل مكان يجتمع فيه الناس ، ويتصرفون بالاتفاق أوالتوافق فيما بينهم، لكنها تستنبط مشروعيتها انطلاقا من اللقاء الأول، أكثر مما تستنبطها من أي عمل قد يلي ذلك، معني ذلك أن العنف قد يبرر، لكنه أبدا لن يحوز علي مشروعية. " حنة آرندت " تنبه إلي أن أخطر أنواع العنف المقترن بالسلطة، هو ما أطلقت عليه (عنف لا أحد ) ، أو العنف مجهول الهوية والعنوان والمسئولية . ولا تستغرب عزيزي القارئ ، فهو " طغيان بدون طاغية " ، عهدناه كثيرا وسئمناه جميعا. يمارس علينا من المهد إلي اللحد ، وبدرجات متفاوته ، وما باليد حيلة . إنها ( البيروقراطية ) أو الحكم الذي يمارس عبر نظام المكاتب الحكومية المعقد واللوائح والقوانين ( الروتين ) . ولا يمكن في رحابه للبشر ، سواء كانوا واحدا أو نخبة ، قلة أو كثرة أن يعتبروا مسئولين ، إنه " حكم لا أحد " ، وبالتالي ليس ثمة شخص محدد يمكن أن يسأل أو يحاسب . وهذه الوضعية ، التي تجعل من المستحيل تحديد المسئولية ، هي من بين أقوي الأسباب الكامنة خلف معظم السلبيات في مجتمعاتنا ، بدءا من الاستكانة للقهر والظلم واللجوء إلي الخرافات والغيبيات ، ومرورا بالانعزال والنكوص والاحباط ، وانتهاء بالهيجان العبثي والعنف والإرهاب.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل