المحتوى الرئيسى

> كيف أسقط بن علي... بن علي؟

02/10 11:23

طوت تونس صفحة زين العابدين بن علي بعدما أمضي ثلاثة وعشرين عاما في السلطة. سيتذكر التونسيون من الآن يوم الرابع عشر من كانون الثاني- يناير 2011 بصفة كونه يوما تاريخيا. هل تبقي تونس دولة حضارية تمثل نموذجا يحتذي به قابل للتطوير في المنطقة العربية أم تسقط في التخلف والفوضي والتزمت فيترحم أهلها من الآن علي عهد بن علي مع كل ما تخلله من تجاوزات وقمع وظلم وفساد وجهل بكيفية التعاطي مع الداخل ومع العالم وحتي مع دول الجوار؟ من أسقط بن علي هو بن علي نفسه الذي لم يعد علي تماس مع الشارع التونسي وحتي مع حزبه والمؤسسات الأمنية التي لعب دورا أساسيا في صنعها. حصل ذلك لحظة اعتقد أن في استطاعته التصرف كشبه آلة قادر علي اختزال تونس في شخصه وعائلة زوجته وأنه يستطيع حتي أن يكون رئيسا لمدي الحياة. ذهب به الغرور إلي حدّ الاعتقاد أن في إمكان زوجته السيدة ليلي طرابلسي أن تخلفه في حال اضطر يوما إلي ترك الرئاسة لأسباب صحية مرتبطة بالتقدم في العمر أو بالمرض. كان لافتاً قبل شهرين، علي هامش الاحتفالات بذكري "التحول"، أي بذكري وصول بن علي إلي الرئاسة في السابع من تشرين الثاني- نوفمبر 1987 أن كل الصحف والمجلات التونسية نشرت إعلانات تهنئة بحلول الذكري تضمنت صورة زين العابدين بن علي وأخري لـ"السيدة الأولي". كان واضحا أن هناك شريكا في السلطة هو ليلي بن علي المولودة ليلي طرابلسي، ابنة العائلة المتواضعة التي حولت اخوتها والقريبين منها، علي رأسهم زوج ابنتها صخر الماطري إلي منتمين إلي شبه عائلة مالكة تسيطر علي جزء من المرافق الحيوية للبلد وتمتلك اليد الطولي والكلمة الأخيرة بالنسبة إلي معظم ما له علاقة بالاقتصاد والتجارة والاستثمارات في تونس. لم يكن في البلد حديث سوي عن العائلة، عائلة ليلي طرابلسي وعن جشع الاخوة وتمدد نشاطهم في كل الاتجاهات. كان هناك بعض التعاطف مع صخر الماطري الذي كان يهيأ لتولي مناصب رفيعة في مرحلة لاحقة نظرا الي انه ينتمي الي عائلة معروفة من البورجوازية التونسية علي العكس من اخوة السيدة الاولي الذين دخلوا عالم الثروة والجاه حديثا، بل حديثا جدا. كانت هناك نقمة واضحة علي بن علي لأسباب عدة ابرزها تغاضيه عن الفساد، خصوصا عن ممارسات عائلة السيدة الأولي، التي هي زوجته الثانية التي لديه منها بنتان وصبي هو ابنه الوحيد ويدعي محمد زين العابدين. لم يخف ما بقي من كبار الحزبيين، أو الحزبيين القدامي، في مجالسهم الخاصة موقفهم السلبي من الرئيس بسبب العائلة. ولكن في العلن، كان الكل منضبطا وكان يتصرف بطريقة توحي أن لا وجود سوي لاجماع وطني حول شخص زين العابدين بن علي الذي رفض دائما وجود رجل ثان أو ثالث أو رابع في البلد. كانت فكرة وجود سياسي أو عسكري آخر في البلد مرفوضة رفضا قاطعا. هناك الرئيس وهناك الآخرون. الأقرب إليه يمكن أن يصنف برتبة موظف في أحسن تقدير. لم يكن مسموحا ببروز أي شخصية. وفي مرحلة ما في التسعينيات، لمع وزير اسمه عبدالرحيم الزواري، فانتهي سفيرا في المغرب. وحده عبدالوهاب عبدالله، الذي كان وزيرا للإعلام في 1987 عندما قام بن علي بانقلابه، عرف كيف يصمد وكيف يحافظ علي موقع ما إما كوزير او كمستشار للرئيس إلي أن عزله بن علي قبل ثلاثة أيام من اضطراره إلي مغادرة البلد تاركا الرئاسة في عهدة الوزير الأوّل محمد الغنوشي. قبل اضطرار بن علي إلي مغادرة تونس، لم يسمع سوي قلة خارج تونس بوجود وزير أوّل أي رئيس للوزراء اسمه محمد الغنوشي. كان مطلوبا من الجميع، بما في ذلك كبار القادة العسكريين والأمنيين أن يكونوا مجرد موظفين عند زين العابدين بن علي و"السيدة الأولي". يمكن الحديث عن عوامل عدة ساهمت في سقوط بن علي الذي استطاع تحقيق إنجازات كبيرة علي رأسها قيام طبقة متوسطة انفتح أبناؤها علي العالم وعلي الإنترنت وكل ما له علاقة بالتواصل مع الآخر. استخدم شباب تونس الإنترنت علي الرغم من القيود التي فرضتها السلطة علي مواقع عدة. في عهد بن علي، كانت تونس ورشة كبيرة. وقد ارتفع معدل دخل الفرد إلي ما يزيد علي ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار سنويا. وهذا رقم محترم إذا أخذنا في الاعتبار أن تونس لا تمتلك ثروات طبيعية من جهة والعواصف السياسية المحيطة بها من جهة أخري. كذلك، لا يمكن تجاهل أن المرأة التونسية حافظت في عهده علي حقوقها وساهمت في التصدي لظاهرة التطرف الديني التي التقطت أنفاسها في السنوات القليلة الماضية واستعادت المبادرة، خصوصا في الأحياء الفقيرة القريبة من المدن. باتت هذه الظاهرة تشكل حاليا، في ضوء إطاحة زين العابدين بن علي، الخطر الأكبر علي مستقبل تونس والتونسيين، بل علي المنطقة كلها. ولكن ما قتل النظام الذي أقامه الرئيس التونسي السابق في نهاية المطاف هو الفردية. حالت الفردية دون نزول بن علي من برجه العاجي. ليس صحيحا أن مستشاريه لم يقولوا له الحقيقة، كما ادعي الرجل في خطابه الأخير قبل أربع وعشرين ساعة من المغادرة، وكان بمثابة خطبة الوداع. الصحيح أنه لم يكن في استطاعة أي مستشار مواجهة الرئيس بالواقع في حال كان عليه البقاء في منصبه. تعلّم مستشارو بن علي الدرس منذ اللحظة الأولي التي تولي فيها الرجل السلطة. يعرفون ماذا حلّ بالعسكريين اللذين شاركا معه في تنفيذ الانقلاب علي بورقيبة. لم يستطع بن علي الذي كان في العام 1987 رئيسا للوزراء إزاحة بورقيبة لولا دعم الجيش والحرس الوطني. علي رأس الحرس الوطني كان الحبيب عمّار وفي الجيش كان هناك ضابط بارز هو عبدالحميد الشيخ. الاثنان كانا شريكين في الانقلاب وكانا قبل ذلك رفاق سلاح لبن علي وقد تخرّج الثلاثة من كلية سان سير العسكرية في فرنسا. من دون الحبيب عمّار وعبدالحميد الشيخ لم يكن هناك مجال لقلب بورقيبة والتخلص من رجال أقوياء في السلطة في حجم محمد الصياح او منصور الصخيري الذي كان وزيرا للدفاع. بعد سنة من الانقلاب، صار الحبيب عمّار سفيرا لتونس في فيينا بعدما تولي وزارة الداخلية لفترة وجيزة. اما عبدالحميد الشيخ، فانصرف الي تطوير الرياضة في البلد!... لم يعد مسموحا بان يكون هناك رجال سياسة في تونس. هناك بن علي ولا احد آخر غير بن علي. حتي في مجال الاعمال، لم يعد هناك مكان لشخصية من خارج العائلة بدليل ما حل بكمال لطيف الذي كان في مرحلة معينة في التسعينيات من القرن الماضي يمتلك نفوذا في المجالين السياسي والاقتصادي. كان هناك حتي وزراء يعتبرون محسوبين علي كمال لطيف. مع مرور الوقت، غاب الرجل عن المسرح السياسي والاقتصادي. لم يعد مكان سوي للعائلة الجديدة، عائلة الزوجة الثانية. حتي ازواج بنات بن علي من زوجته الاولي (لديه منها ثلاث بنات) فقدوا نفوذهم وجري تهميشهم. في عهد الحبيب بورقيبة، كانت هناك وجوه سياسية معروفة. كان هناك مكان لرئيس الوزراء ووزراء من ذوي الأوزان الثقيلة. في عهد بن علي لم يعد هناك مكان سوي للموظفين. في بداية عهده كان رئيس الوزراء الهادي بكوش شخصية معروفة وقد لعب دورا في عملية انتقال السلطة الي الرئيس الجديد. كتب البكوش البيان الذي تلاه بن علي محددا فيه الأسباب التي تدعو الي عزل بورقيبة لاسباب صحية اوّلا تمنعه من ممارسة صلاحياته الرئاسية. لم تمض اشهر إلاّ واصبح الهادي بكوش في بيته وحل مكانه موظف لا طعم له ولا رائحة. انسحب التفرد بالسلطة علي كل مرافق الحياة في تونس. لم يعد مكان لمحمد مزالي رئيس الوزراء في عهد بورقيبة الذي اضطر الي الفرار عن طريق الجزائر كي لا ينتهي في السجن. لم يعد الحزب الحاكم، الذي جري تغيير اسمه، سوي جهاز تابع للرئيس لا يتسع لاي شخصية تمتلك حيثية. لم يدافع الحزب الذي يضم ما يزيد علي مليوني عضو عن بن علي، علما انه كان يفترض به ان يفعل ذلك، خصوصا ان لديه سبعة آلاف شعبة موزعة علي كل انحاء تونس. تبخّر الحزب (التجمع الدستوري) وبدا اعضاؤه وكأنهم جزء من المعترضين علي النظام الذي قام اصلا علي الحزب. كانت هناك ثلاث ركائز للنظام الذي اقامه بن علي. خذلته الركائز الثلاث، كل علي طريقتها. الحزب لم يتحرك. قوي الأمن اطلقت النار علي المتظاهرين. لم يكن المشرفون عليها يمتلكون حدا ادني من الوعي السياسي الذي يسمح بتقدير الموقف ومعرفة ان الدم لا يجر سوي الدم وانه يستجلب مزيدا من المقاومة الشعبية للسلطة ورموزها. اما الركيزة الاخيرة فكانت الجيش. انتقم الجيش من بن علي الذي تصرّف مع ضباطه باستعلاء. انتظر الجيش ثلاثة وعشرين عاما كي يجعل الرئيس التونسي يدفع ثمن عدم تقديره لدوره في المحافظة علي الامن وضبط الوضع لدي حصول "التحول" في العام 1987 . صحيح أن انتفاضة شعبية أطاحت بـ«بن علي». لكن الصحيح ايضا انه كانت هناك قوة منظمة تعمل في الخفاء تحرك الشارع. استغلت هذه القوة نبض الشارع وبراءة الشباب التونسي. عاد الاسلاميون الي الواجهة في تونس. عملوا في السنوات الاخيرة في الخفاء. استفادوا من ترهل النظام واجهزته ومن تقدم زين العابدين في العمر ومن سيطرة العائلة علي القصر الرئاسي وعلي كل ما له علاقة بالاعمال. الاسلاميون يمثلون القوة الصاعدة في تونس، اللهم إلا إذا استطاع الحزب ايجاد شخصية قوية قادرة علي التصدي لهم! كان في الإمكان الدفاع عن الانجازات الكثيرة التي حققها زين العابدين بن علي لولا الدم الذي سال في الاسابيع القليلة الماضية. تحوّل الرجل من ديكتاتور، حقق بلغة الارقام انجازات كبيرة لكنه لا يتحمل سماع اسم آخر غير اسمه، الي مسئول عن دم زهاء ثمانين تونسيا سقطوا في الأحداث الأخيرة. حتي لو كان هناك من يقول إن قوي الأمن استُدرجت واضطرت الي اطلاق النار علي المتظاهرين، لا شيء يبرر سقوط ضحايا. دفع بن علي ضريبة الدم تاركا تونس في مهب الريح. ماذا سيفعل الحزب الحاكم؟ هل بقي شيء من الحزب ام نخره الاسلاميون الذين حال بن علي دون انقضاضهم علي السلطة في العام 1987؟ ماذا سيفعل الجيش؟ هل لديه القدرة علي السيطرة علي البلد ووضع حدّ للفوضي. اذا لم يوضع حدّ للمأساة التي تشهدها تونس حاليا؟ ليس مستبعدا ان يكون الحدث الذي شهدناه يوم الرابع عشر من كانون الثاني- يناير 2011 بداية مسلسل ليس إلاّ، يطال الجوار التونسي وحتي المنطقة العربية كلها عاجلا أم آجلا... كاتب لبناني

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل